أحيا عازف البيانو الإيطالي المعروف غبريال ستراتا حفلاً موسيقياً في الكنسية الأرمنية الأرمنية الإنجيلية الأولى في بيروت وذلك بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة الموسيقية هبة القواس، ومدير المعهد الثقافي الإيطالي في بيروت أنجيلو جيو في سياق الحفلات التي ينظمها الكونسرفتوار في شكل دوري، وتستضيف موسيقيين وعازفين وقادة أوركسترا عالميين ومحليين.


وتحدثت رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة الموسيقية هبة القواس في بداية الحفل قائلة: "هذه الليلة الإيطالية هي مميزة جداً، لأنها تقام في خضم ما نسمعه في الصحافة عن حرب وشيكة قادمة إلى لبنان، ومع كل هذه الأجواء المشحونة، ولكن كان إصرارانا نحن والسفير الإيطالي ومدير المعهد الثقافي الإيطالي، على أن نواجه هذه الأخبار بالموسيقى وأن نقدم حفلاً موسيقياً مختلفاً، كما قدمنا منذ مدة وجيزة حفلاً موسيقياً إيطالياً، وخصوصاً في هذه المرحلة التي تكثر فيها التحذيرات الدولية من المجيء إلى لبنان، لأننا بالموسيقى والثقافة نستطيع مواجهة الخوف من القدوم إلى لبنان، وذلك عبر استقدام موسيقيين إيطاليين كبار للعزف في بيروت، وهكذا تكون الدبلوماسية الموسيقية ودورها الإيجابي والبناء في صنع الأمل والمستقبل. أردنا أن نحتفل الليلة باليوم العالمي للموسيقى مع الكونسرفتوار الوطني الذي يجمعنا به تعاون مشترك". وقدّم السفير "العازف الإيطالي غبريال ستراتا بقوله: "هو من العازفين الموهوبين جداً رغم صغر سنه، 25 عاماً، وحصل مؤخراً على جائزة في مسابقة عالمية في مونريال، وحصل ايضاً على جائزة لجنة التحكيم في المسابقة نفسها".
وقد حضر الاحتفال نخبة من الشخصيات السياسية والدبلوماسية والثقافية والإعلامية، تقدمهم السفير الإيطالي لدى لبنان افابريسيو مارسيلليو ووفد دبلوماسي من السفارة، والسفير الكولومبي إدوين أوستوس الفونسو، والسفير اللبناني لدى المملكة العربية السعودية فوزي كبارة وجمع من محبّي الموسيقى الكلاسيكية، في أجواء من الرّقي المعهود الذي تميزت به حفلات الكونسرفتوار، وتضمن برنامج الحفل معزوفات للمؤلفين العالميين: ريسبيغي وتشايكوفسكي وشوبان.
حيّا العازف ستراتا الجمهور مفتتحاً بمعزوفة Notturno للمؤلف الموسيقي الإيطالي Ottorino Respighi(1897-1936)وأحد القامات الموسيقية البارزة في أوائل القرن العشرين. منتقلاً بعدها إلى F. chopin(1810-1894) في معزوفتين Notturni op. 15 No. 1&2، و Ballata No. 3 op. 47، ليختم مع Tchaikowsky (1840-1893) بمقطوعة Grand Sonata op. 37 في انسيابية وحرفية تقنية لافتة وأنيقة.
فما قدمه ستراتا، على صغر سنه، أظهر روحاً عزفيّة أعتق وأبعد من سنواته الخمس والعشرين، من خلال عمق الصوت الموسيقي المتناهي من الآلة، تظهّر ذلك عبر أداء العازف الذي أظهر بشكل لافت ملكة الصبر في تطوير مَوسقة بناء الجملة اللحنية (musicality) التي تعدّ عنصرًا أساسيًا في جودة الأداء، وتظهر الخصائص والمميزات الفنية في الأداء الموسيقي، من خلال الحساسية والإبداع والتعبير والقدرة على التفسير والتفاعل مع الموسيقى. وهذا ما برز في التروّي في عزفه Notturni لشوبان، مبتعداً عن الاستعجال وإظهار عضلاته العزفية.
مناخ أثيري خيّم على الأمسية الموسيقية مع ستراتا، أرسته ملامسة أصابعه برفق وخفة للوحة مفاتيح البيانو التي تشي برقة متناهية، انبلج منها رنين وفضاء أثيري بعيداً من الصوت الطنيني، ما خلق مساحة أكبر وأرحب. ولكن العازف الماهر استطاع في الوقت نفسه، أن يظهّر التباين والتضاد في الصوت الكبير وقوة البيانو من الداخل، عبر أصابعه التي تمكنت من الولوج إلى عمق الآلة، لتظهر قوة التحكم بالسرعة الكبيرة التي تتطلبها المقطوعة مع تحكم بارع بالموسيقية، وبالتشكيل واللفظ الموسيقي، وبالتعبير اللحني والجمل الموسيقية، مع كل السرعة والقوة التي كان يستخدمها عندما وصل إلى التطوير في النهاية. كما في أداء ستراتا لتشايكوفسكي، فقد تميز بطريقة خاصة جداً شهد على براعتها موسيقيون روس كانوا في الأمسية. فاستطاع أن يؤسس لكونسرت مختلف ومميز من جوانب عديدة في جميع المقطوعات التي أداها، وأن يعطي المؤلفين الكبار حقهم، وأن يبرز طنين الصوت والمساحة، بما فيها مساحة الصمت الذي ابتدع له صوتاً، كما استطاع أن يضرب عزفاً بأقصى ما لديه عند الجنون الدراماتيكي، مظهراً بذلك مهاراته الفريدة.
تمكّن ستراتا من إظهار جمالية وعمق هذه الأعمال مجتمعةً التي تُعدّ تحفًا في الريبرتوار الكلاسيكي، بدءاً بـ "ريسبيغي" الذي عُرف بقصائده السيمفونية مثل "نافورات روما" و"أشجار الصنوبر في روما"، وكان مؤلفاً شاملاً ومتعدداً، ترجم إلى الموسيقى تجارب بصرية قوية ومشاعر الارتباط العميق بالأماكن. كما استطاع إظهار فرادة شوبان ووجوهه المتعددة، بدءًا بالإيماءة البيانية الصافية، التي ظهّرت الأعمال المشبعة بالشّعر وعمق العاطفة والقوة والدراما، وهي تتدفق من الآلة الموسيقية، وصولاً إلى تنقّلها المدهش بين مسارات شوبان اللحنية التي تتطلب دقة ومهارة في إيصالها إلى المتلقي، وصولاً إلى رسم الفضاء الموسيقي لشوبان برومانسيته وروحانيته وخصوصيته. وهذا ما استطاع تجسيده بكثير من التماهي الروحي والعزفي لتُحف المؤلّفين الموسيقية. وصولاً إلى اللحظات الساحرة المغرقة في العمق الموسيقي لدى تشايكوفسكي، وإبداعه في تصوير النغم وانتقاله من القرار الهادئ إلى درجة الذروة العاطفية والتعبيرية، واستخدامه الفريد للألوان الموسيقية، وقدرته على نقل المشاعر العميقة من خلال الموسيقى. ما نقل الحضور إلى عوالم الموسيقى السحرية بأنامل ستراتا المحلّقة في فضاءات تجاوزية.