لسنوات عديدة، ما زالت الممثلة اللبنانية أنجو ريحان تعتلي خشبة المسرح لتقدّم لنا ببراعة لا تشوبها شائبة مسرحية "شو منلبس"، نص الكاتب يحيى جابر، الذي عوّدنا على أعمال تنبض بوجع الجنوب وتاريخه، وتسكنها روح الإنسان المقاوم، المكافح، والضاحك رغم الجراح.


في هذا العرض، لا تجسّد ريحان شخصية فحسب، بل تتقمص الجنوب كله .. بلهجته، بحكايته، بتناقضاته، وبأوجاعه، وبخفة ظل لافتة، تنقلنا من ضحكة صادقة إلى دمعة حبيسة، ومن مشهد طريف إلى غصّة مؤلمة عن أسرى في السجون الإسرائيلية، وعن قلوب مكسورة لا تزال تبحث عن أحبابها خلف القضبان.
المسرحية تحكي عن فتاة نشأت في بيت شيوعي، لأب لا يرى الحياة إلا من خلال مقاومته، وابنة عالقة بين جنوب يحمل القيود والمبادئ، و منطقة أخرى تلوح بالحرية والانفتاح، من هنا ينبثق سؤال الهوية، بين الانتماء والاختيار، بين المايوه والحجاب، بين التقاليد والرغبة في الحياة.
أنجو وحدها على الخشبة، لكنها تمنحنا شعوراً بأن فرقة كاملة تتحرك أمامنا، تبدل ملابسها، تغير نبراتها، ترقص وتغني وتحاور وتبكي، فتمنح كل لحظة حقّها، تنقلنا من قصة إلى أخرى بسلاسة ساحرة، كأنها تغزل بخيوط غير مرئية لوحة كاملة عن الإنسان الجنوبي، وحبه، وانكساراته.
أنجو في "شو منلبس" ليست مجرّد ممثلة تؤدي دوراً، بل هي حالة فنية متكاملة، حضورها ساحر، وإدراكها للنص عميق، وتفاعلها مع الجمهور حيّ وصادق، هي ليست فقط الفتاة التي عرفناها بابتسامتها الدائمة، بل ممثلة من طراز نادر، تتفوّق على نفسها مرة بعد أخرى، وتثبت أنها الرقم الصعب في مشهد مسرحي بات يعاني من السطحية والاستسهال.
والأجمل، أن الشهرة لم تغيّرها، أنجو بقيت قريبة من الناس، صادقة، لا تتصنّع ولا تتعالى، تحافظ على محبة جمهورها بإخلاصها، وصدق حضورها. في "شو منلبس" كما في "مجدرة حمرا"، تثبت ريحان قدرتها اللافتة على تحقيق معادلة نادرة في المسرح، الاستمرارية والنجاح معاً. سنوات طويلة مرّت على عرض المسرحيتين، ورغم ذلك لا تزالان تحجزان مكانهما في قلب الجمهور، وتستقطبان مشاهدين جدد في كل مرة. هذا الامتداد الزمني لا يُقاس بعدد العروض فقط، بل بقدرة أنجو على الحفاظ على وهج الأداء، وعمق الرسالة، وحيوية التفاعل، نجاحها لا يأتي من لحظة ضوء عابرة، بل من مشروع مسرحي متكامل ينبض بالحياة في كل مرة يقدم فيها من جديد.
من الدقيقة الأولى وحتى ستارة النهاية، تأخذك ريحان في رحلة لا تُنسى، إنها ليست مسرحية فقط، بل تجربة شعورية كاملة، تلامس القلب والعقل والضمير.