يُعتبر الأخوان رحباني من عظماء الموسيقى اللبنانية والعالمية، وكانا بحق قادة المسرح الغنائي العربي، كما إشتهرا بالألحان التي غنت جزءاً كبيراً منها السيدة فيروز. كان لهما فضل كبير في انطلاقة وشهرة الكثير من عمالقة الأغنية اللبنانية، أمثال فيروز ونصري شمس الدين وهدى حداد وجوزيف ناصيف وجوزيف عازار ورجا بدر ورونزا وعبدو ياغي وإيلي شويري وغيرهم.
استوحى الرحبانيان موسيقاهما من التراث البيزنطي والسرياني والفولكور اللبناني، بالإضافة إلى تعمقهما في الدراسة الموسيقية الكلاسيكية الغربية، وكتبا المسرح للوطن والأرض والتاريخ والمستقبل، وإهتما بالفولكلور اللبناني إهتماماً خاصاً، وناصرا القضايا العربية الكبرى، فكانت لديهما أغنيات لفلسطين منها "زهرة المدائن" و"سنرجع يوماً" و"جسر العودة".
نبذة
شهد عاما 1923 و1925 ولادة مؤسسي الأغنية اللبنانية وأسطورتين، شكلا بإبداعهما وتعاونهما معاً، ولادة فجرٍ جديد طبع تاريخ لبنان الفني والموسيقي إلى الأبد.
ولد عاصي الرحباني فجر الثالث والعشرين من أيار/مايو عام 1923، فيما أخوه منصور ولد في 4 أيار/مايو عام 1925 في بلدة أنطلياس في قضاء المتن، من أب موسيقي هو حنّا إلياس الرحباني وأم هي سعدة صعب، وقد أنجبا بعد عاصي ومنصور كلاً من :"سلوى وإلياس وإلهام"، وانتقلت العائلة للسكن في منزل متواضع، وقد عرف عن حنّا الياس الرحباني والد عاصي ومنصور تشدده في الأمور التي تتعلق بالآداب والأخلاق العامة، واستهوته آلة البزق وفتح مقهى في "الفوار" في ضواحي أنطلياس، وكان يعزف عليها في أمسيات المطعم، جامعاً حوله زبائنه والولدين الصغيرين ليستمعا إلى عزفه، بالإضافة إلى بضع أغانٍ قديمة على الفونوغراف، خاصة أغاني أم كلثوم، أمين حسنين، عبد الوهاب، سيد درويش، وغيرهم من مطربي تلك الأيام.
نشأتهما
نشأ الأخوان رحباني في هذا الجو الأخلاقي الصارم وكذلك المفعم بالموسيقى، عدا عن أن جدتهما لأمهما كانت تحفظ الكثير من الحكايا والأساطير عن الأبطال الخياليين، القبضايات، الجنيات، وأخبار الحب، كما كانت تنظم الزجل، على الرغم من كونها أمية، وكان لها دور كبير في تكوين ذاكرتهما الثقافية منذ الصغر، إذ كانت تشجعهما على حفظ ما امتلكته من هذا الموروث الشعري.
تأسيسهما مجلات في سن مبكرة
في عمر الرابعة عشرة، أسس عاصي مجلة اسمها "الحرشاية" وكتب بخط يده أولى محاولاته الشعرية، والقصص المسلسلة، باللغة العربية الفصحى أو بالعامية اللبنانية، وكان يوقعها بأسماء مستعارة، ويذهب ليقرأها من "بيت لبيت" في نهاية كل أسبوع.
أما منصور فكان يحب الشعر منذ طفولته، وبدأ أولى محاولاته في كتابة الشعر في سن الثامنة، وفي الثانية عشرة من عمره اشترك في مجلة "المكشوف"، وبعدها في مجلات أدبية أخرى. كان عاصي يشاطره قراءتها بشغف كبير، ثم انكبّا على قراءة كتب الفلسفة، وكتب "طاغور" و"ديستويفسكي" ومسرحيات "شكسبير".، إلا أن غيرة منصور من أخيه الأكبر دفعته لأن يؤسس مجلة أخرى مشابهة، والتي أسماها "الأغاني" وقد بدأت المنافسة بينهما.
دور الأب بولس الأشقر في إنطلاقتهما
التقى الأخوان رحباني الأب بولس الأشقر، وقد شكل هذا اللقاء تحولاً أساسياً في حياتهما، وقد تعلّما العزف على البزق لوحدهما، وكان أول عمل لهما نشيداً بمناسبة عيد الأب بولس الأشقر، ثم الألحان الدينية وبصورة خاصة المزامير، بالاشتراك مع الجوقة.
كان شغفهما بالمسرح كبيراً ثم أصبح المسرح هاجساً لديهما، إلى أن كتب يوسف لويس أبو جودة مسرحيات لهما خصيصاً باللهجة اللبنانية. أسسا "نادي أنطلياس الثقافي" وحاولا من خلاله تقديم بعض النشاطات الثقافية والاجتماعية بمساعدة شبان البلدة، فقدما حفلات غنائية، ثم وضعا ألحاناً لإدخالها في المسرحيات، وكانت باكورة أعمالهما مسرحية "وفاء العرب" التي ألّفاها ولحّناها ومثّلا فيها، أخذ عاصي فيها دور "النعمان الثالث"، ولعب منصور دور "حنظلة". ثم مسرحيات أخرى كانت إما من تأليفهما، أو بالمشاركة مع آخرين.
إنطلاقتهما
وفي عام 1944 بدأت مرحلة جديدة في حياة الأخوين رحباني الفنية، فلقد بدآ بتقديم مسرحيات غنائية طويلة وذات قصة، كما نظما ولحنا أغنيات قصيرة من دقيقتين أو ثلاث دقائق عندما لم يكن يستطيع المؤلف الموسيقي ضبط موضوع غنائي بأقل من نصف ساعة، وقد كان لهذه الأغنيات حضور إيجابي في إذاعة دمشق، وإذاعة الشرق الأدنى، لكن التدهور المالي للعائلة لم يسمح باستمرار النشاط الفني، ففي سن السادسة عشرة، انضم عاصي إلى السلك العسكري بعد أن اضطر إلى تكبير سنه كي يحق له التقدم إلى الوظيفة، ثم فعل منصور الشيء نفسه.
من الهواية إلى الاحتراف
بعد الحرب العالمية الثانية، قرر عاصي ومنصور أن ينتقلا من الهواية إلى عالم الإحتراف، وكانت الإذاعة الطريق الوحيد للانطلاق في المجال الاحترافي، رفض كورس الإذاعة ومطربوها أن يغنوا للرحبانيين، لتضمّن أغنياتهما كلمات كانت تعتبر غريبة، فأحضرا أختهما "سلوى" وأسمياها "نجوى" لتؤدي أغانيهما في الإذاعة.
استقال عاصي من سلك الشرطة، وكان يأتي كل يوم إلى عمله في الإذاعة واستقال منصور أيضاً من وظيفته في الشرطة، وتابع دراسة الموسيقى مع عاصي وتوفيق الباشا على يد الأستاذ "برتران روبيّار"، الذي علمهم قواعد الموسيقى الغربية لمدة تسع سنوات. بتعلم الموسيقى الشرقية لمدة خمس سنوات، والموسيقى الغربية لمدة تسع سنوات، ساهم انتقال إذاعة الشرق الأدنى من قبرص إلى بيروت بجعل أعمال الأخوين رحباني تصل بسرعة إلى آذان المستمعين، ومن بين تلك الأغاني القديمة نذكر: دجاجات الحب، زورق الحب لنا، يا ساحر العينين، سمراء مها، هل ترى يولا .. وكانت تؤديها أختهما "سلوى" أو "نجوى" كما أسمياها، وهكذا حتى جاءت فيروز.
يتبع في الجزء الثاني