لا يتأخر عن صباحياتنا اليومية، يحضر كل يوم، في كل منزل عربي، على فنجان قهوتنا، وربما بعد الظهر، وربما في المساء.
وسوف يزور يومياً بيوتنا حتى ولو غادر بالجسد. رحل المايسترو ميشال مرهج بقلوق عن عمر 91 عاماً وهو ما يزال في عزّ عطائه الفني. آخر مرة زرته كي أجمع من ذكرياته الفنية تمهيداً لكتابة مسيرة حياته كان منذ ثلاثة أشهر، قبل أن ترحل به الكورونا الى مكان بعيد، تاركاً لنا إيقاع أغانيه اللبنانية مع السيدة فيروز، الشحرورة صباح، المطرب وديع الصافي، فريد الأطرش سلوى وهدى، شويري وأم كلثوم... واللائحة لا تنتهي.
ميشال مرهج هو ذلك الشاب الذي يظهر في كل صور السيدة فيروز عندما تغني في هياكل بعلبك، فيجثو المايسترو عند قدميها، كي يعطيها بلحظ عيونه شارة الغناء. ميشال مرهج لمن لا يعرفه من غير الفنانين، هو ضابط إيقاع معظم الأغاني اللبنانية، والأغنية أساسها إيقاع. يذكر المايستور انه كان يفتح الفجر مع العملاق عاصي الرحباني بعد سهر الليل، وهما يكتبان النوتة للأغاني الرحبانية.
نشأته وبداياته مع عاصي ومنصور الرحباني والسيدة فيروز
هو أصيل كزيتون القدس حيث ولد عام 1928، وصلب كأرز لبنان حيث عاش وأطلق موهبته الفنيّة. أُدخل الفتى اليتيم الى مدرسة داخلية تابعة لأحد الأديرة المقدسيّة. وهناك، تعلّم القواعد الموسيقية، ليشكل ذلك إضافة مهمة في مسيرته كعازف إيقاع يجيد قراءة النوتة. بعدها، توظّف في "إذاعة الشرق الأدنى" (التي أسسها الاستعمار البريطاني في القدس) في القسم الإداري، ثم انتقل منه إلى قسم الموسيقى بعدما علِمَ حليم الرومي بإمكاناته في العزف على آلة الرقّ، التي «جرّه» إليها استماعه إلى أغاني أم كلثوم. بعد النكبة، انتقل مع الإذاعة إلى قبرص، ومنها لاحقاً إلى بيروت حيث بدأ مع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز وغيرهم من الأسماء المرموقة أمثال زكي ناصيف ونصري شمس الدين ثورة الأغنية اللبنانية، عمل معهم عازف الرقّ المحترف، مع نصري وصباح ووديع الصافي وفيلمون وهبي وزكي ناصيف وتوفيق الباشا لعقود من النجاح.
علّم المايسترو ميشال مرهج في الكونسرفاتوار الوطني لسنوات طويلة، وكان يتنقّل من منزله في غاليري سمعان الى المعهد بين الرصاص والقذائف، إيماناً منه بأن الفن جبهة حضارية في مواجهة آلة الدمار والقتل. أجمل لحظات حياته هي تلك التي يروي فيها كيف كان يسافر مع فيروز والأخوين رحباني حاملين الأغنية اللبنانية الى كل اللبنانيين ومحبي الفن اللبناني، حين كان العالم يطلق رصاصة الرحمة على بلد يعيش الموت المحتّم. قصص وروايات يتحدث فيها بشغف عن حبيبة قلبه "نهاد" الإسم الأصلي للسيدة فيروز، هي "نهاد" التي علّمها المغنى قبل ان تلتقي بعاصي ويكملان مع منصور والمرهج مسيرة الفن الخالد.
في معرض دمشق أبدعوا، كما في مصر وجرش وباريس وكل دول اوروبا. ميس الريم، جبال الصوّان، ناطورة المفاتيح، وغيرهم من المسرحيات كانوا "المحطة" التي تنقل المايسترو والعمالقة من إبداع الى آخر. ومع صباح "دبكوا حجار القلعة معنا" يتذكر المرهج.
أُصيب برصاص قناص
أصيب المايسترو وزوجته السيدة لورا برصاصات قناص وهما في منزلهما، فاتصل منصور الرحباني فور سماع اسمه في نشرة الأخبار، سائلاً ابنته كلوديت: طمّنيني، إيدين بيّك بهُن شي؟ فطمأنته، الحمدالله ، لم تُصب يداه وسوف يحيا ليعزف معكم.
بعد هذه الحادثة، حزم المايسترو أمتعة السفر مع عائلته عام 1989 قاصداً نيويورك، فانفصل جسدياً عن روحه الموسيقية في لبنان، ليكمل مع فريق جديد آخر مسيرة الفن. عزف لسنوات مع مدير الكونسرفاتوار الوطني اللبناني بسام سابا، مؤسس اوركسترا نيويورك العربية، والموسيقار الكبير سيمون شاهين، فنقلوا الفن العربي الى بلاد العم سام، الى كل ولاية اميركية، لعشاق الطرب الشرقي والذواقة الأميركيين.
أستاذ فريد الأطرش وترك زياد الرحباني
كان أستاذاً للفنان فريد الأطرش، علّمه المغنى، ورافقه لثماني سنوات، وكان المايسترو، الرجل الأمين المهذب، ليس فقط ضابط إيقاع أغاني فريد بل ضابط المصروف من نتاج الحفلات الناجحة. "نعم، انا كنت أعطيه مصروفو"، يقول المايسترو.
ترك "الأفراح" مع زياد الرحباني ورحل، ولكنه ظل يعزف مقطوعاتها في ولايات اميركا، ويُخبر كيف وُلد ألبوم "بالأفراح" مع شلّة زياد، بعد كاس عرق في سهرة لبنانية مميّزة. أكمل المايسترو حياته الفنيّة انطلاقاً من منزله في سيتايتن آيلاند في نيويورك، يراجع يومياً أغانيه اللبنانية، يتفقد "راجعين يا هوا" و"بيني وبينك يا هالليل" ، قائلاً: "انا بعيش لما أكتب نوته او أعزف في الأيام التي لا يكون فيها حفلات، أمرض".
نال المايسترو تكريمات عديدة في الولايات المتحدة، كان أبرزها وسام الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم عام 2014 برئاسة المهندس ألبير متى والأمين العام عاطف عيد، عزف المايسترو عدة مرات على مسارح الأمم المتحدة في حفل تكريم الشاعرين أنسي الحاج وجوزيف حرب، حيث عزف بـ"ليل وشتي" في ليلة شباط شتوية.
فيروس كورونا ينهي حياته
إبن التسعين ونيّف كان يستعدّ للعزف في حفلة غنائية في كندا هذا الربيع، لولا الكورونا التي سكّرت دفتر النوتة الى الأبد، وشلّت أصابعه عن ملامسة آلة الدف التي عشقها. فسكت المزهر، وصمتت الدربكة عن الإيقاع الجميل، لكن المايسترو سيظل يزورنا في بيوتنا كل صباح. "عندما تسمعون الأغنية، ركّزوا على كل آلة لوحدها... فسوف تعشقون ما صنعنا" كانت هذه دائماً وصيّة المايسترو.