كتاب " بيت مولد جبران وحديقته الكونيَّة "، يلقي الضّوء على حياة أسرةٍ بكاملها تناولها الباحثون الّذين درسوا حياة جبران خليل جبران على أنّها أسرةٌ فقيرة، معدمة، مهاجرة.
..
هذا الطّرح الّذي كان معتمداً منذ قرابة قرنٍ من الزّمن، ونشأت حوله أساطير وحيكت قصصُ، قد يكون مستنداً إلى واقعٍ وإلى بعض الموجودات الّتي تدلّ عليه وتُشير إليه.
لكن، من يستعرض حياة خليل جبران، والظّروف الإجتماعيّة والسّياسيّة الّتي عاشها وأمضاها مع أسرته، لا بدَّ من أن تتّضح أمامه بعض الثّوابت الّتي يجب العودة إليها والتّمعّن بمضمونها علَّها تزيل الآثار السّلبيَّة عن الأسرة الجبرانيَّة.
إنَّ خليل جبران، والد جبران، ربّ عائلة مؤلّفة من ثلاثة أولاد مع أمّهم الّتي أتت بابنها البكر بطرس من زوجها الأوّل لينضمَّ إلى أسرة خليل. لكنَّ الضّغوط الّتي مورست عليه من قبل الوالي العثماني واتّهامه بالخيانة للدّولة العثمانيَّة ولأبناء بلدته، جعلاه يخسر قسماً كبيراً من أملاكه. فهل لخليل جبران أملاك؟
بالطّبع! فها هي محكمة البترون، والتي كانت القصبة في بشرّي تابعةً لها إداريّاً، تنشر في جريدة لبنان الرّسميَّة قائمة من خمسة عشر عقاراً كان يملكها خليل جبران. والجريدة المذكورة تحدّد العقارات من الجهات الأربع. وشيخ القصبة في بشرّي أسعد أمين الخوري يقرّ بشهادةٍ له مدوّنة في 10 شباط 1912، بمحتويات ومكوّنات بيت خليل جبران في بشرّي، فيكشف " أنَّ بيت المرحوم خليل جبران يحتوي على طبقتين: سفلي وعلوي. فالسّفلي يحتوي على محلّ مطبخ وسفرة وصالون كبير مع دار واسع موجود فيه بركة ماء وقوضة كرار وياخو للخيل مع بيت وحاكورة بجانبه. والعلوي يحتوي على خمسة غرف منامة وصالون كبير مع دار".
هذه الوثائق الرّسميَّة والمنشورة جميعها في الكتاب، تثبت أنَّ خليل جبران كان ملّاكاً ومقتدراً لكنَّ ظروفاً طرأت عليه، استدعت توقيفه في سجون الحكم العثماني إيفاءً لبعض التّحصيلات المادّيّة الّتي زعم أنّه لم يسدّدها كجابٍ للضَّرائب يومها. أمَّا خليل فلم يتهرّب منها، بل اضطرَّ إلى الإستدانة لتسديدها كاملةً.
هذا الواقع وما رافقه من ضيقٍ إقتصاديّ وسندات موقّعة من قبل خليل، شاركه ببعضها ابنه جبران، وبقاء خليل في الحبس لفتراتٍ من الزّمن، استدعت جميعها أن تكون العائلة في ضيقٍ وعوز ماديّ ما اضطرّها إلى السّفر إلى بوسطن.
إنَّ هذا المنحى التّاريخي للعائلة الجبرانيَّة، كان مصدر بحثٍ وتقصٍّ من قِبل وهيب كيروز(1941-2012) الباحث والمتعمّق في الفكر الجبراني من خلال مؤلّفاته الّتي أطلق عليها إسم " عالم جبران ". فنجده في كتاب " بيت مولد جبران وحديقته الكونيَّة "، يتقصّى ويفتّش عن كلّ معلومة تساعده، من قريبٍ أو من بعيد، على التركيز على المعطيات الأساسيّة حول ملكيَّة خليل جبران لمجموعة من العقارات وبشكل خاص على بيته في بشرّي الّذي تحدّث عنه جبران في رسائل متعدّدة إلى ماري هاسكل. وتجدر في هذا المجال مراجعة التّواريخ من كتاب نبيَّ الحبيب الّذي ترجمته إلى العربيَّة فرجينا الحلو ونوردها وفق تسلسلها: الجزء الأوّل من يوميّات ماري هاسكل تاريخ 7 كانون الاوّل 1910، 24 آذار 1911 وفي الجزء الثّالث تاريخ 10 تشرين الاوّل 1920.
ويكشف الكتاب بالصّور شكل البيت الّذي سكن فيه خليل وأسرته قبل أن تنتقل ملكيّته إلى المونسنيور بولس جبران رئيس كهنة بشرّي بوكالته إلى عطارد الحكيم جبران، والّتي اقترن إسمها بإسم البيت ولا يزال معروفاً لغاية اليوم بأنَّ عطارد سكنت فيه، بحسب شهادات أهل الضّيعة. ويؤكّد بولس البيطار كيروز، زوج عمّة جبران، أنَّ المونسنيور بولس جبران قد اشترى البيت الواقع على العقار 4119، كي يفي الديون التي كانت على خليل. ولا يفوتنا ما لرجال الدّين يومها من سلطانٍ زمنّيّ وروحيّ على حدّ سواء.
وهيب كيروز، وبعد أن تأكّد من أنَّ بيت خليل جبران قد تمَّ استملاكه سنة 1956 وهُدم بعد سنين قليلة، وحرصاً منه على بقاء أثرٍ يخلّد ذكرى جبران، هذا العبقريّ من لبنان، طرح إنشاء " الحديقة الكونيَّة " على إسمه في المكان المعروف اليوم ببيت جبران الّذي تملكه لجنة جبران الوطنيَّة. مع العلم أنَّ البيت هو لعيد جبران.
هذا المشروع الفنيّ العملاق، هو عبارة عن تجسيد لقصّة الحياة وتطورّها من عالم المادّة إلى عالم الصّفاء الرّوحيّ عبر إقامة تماثيل من لوحات جبران تجسّد ترقّي الذّات الإنسانيّة من الولادة، إلى الأبناء، إلى العالم الإلهيّ...
ويعتبر وهيب كيروز أنَّ الفنّ هو في أساس ترقّي الشّعوب ومسيرتها نحو العالم الكلّيّ الّذي دعاه جبران بعالم الأثير، الّذي تسكنه الأرواح، حيث الغمامة تطهّر الذّات واليد المشتعلة رمز الخلق النّقيّ والشّفّاف.
كتاب " بيت مولد جبران وحديقته الفنيَّة " وما يرافقه من وثائق وتصوّرات، يضيء على ناحية من نواحي الأسرة الجبرانيَّة هي محض جديدة. وهذا ما عوّدنا عليه الباحث وهيب كيروز من حيث رصانة البحث وعمق النّظرة الثّاقبة والعمل الأكاديمي الّذي يعالج الطّروحات في شتّى جوانبها ليوضح الأهمّ والاكثر دقة في حياة عبقريّ من لبنان يفتخر به لبنان والعالم على حدّ سواء.