الأمكنة والمناسبات والأشخاص مرتبطون بالذكريات، أحداث تحفر بالذاكرة أجمل المشاعر والحنين.
وفي زمن الأعياد تعود إلينا الذاكرة لتنقش على خشب الحنين أسماء أشخاص رحلوا بالجسد وبقوا في الذاكرة والأماكن والزمن شهوداً على حبّنا لهم وتعلّقنا بهم.
وكم يحلو لي في زمن العيد هذا أن أكتب مقالة كما يكتب الكاتب سيرته الذاتية، لأفتّش في ثنايا ذاكرتي عن ذكريات أحبّ أن أعيشها وأن أشاركها معكم، عن ذكريات تستحضرني كلّما طرق الوقت على بابي ليمرّ مرور السنوات السريع.
هذه الذكريات مرتبطة بشخص طبع في وجداني أجمل الأوقات التي لا يستطيع الوقت أن يمحوها. وعلم النفس يؤكّد أن الإنسان في فترة الأعياد يشعر بالحزن والقهر بسبب غياب أشخاص عزيزين على قلبنا. لكنني أردت هذه المرّة أن أبدّد شعور الحزن هذا بسعادة كبيرة لأن من غاب عنّي ورحل هو بين يدي الله ويسكن عن يمينه. وفي كل عيد ميلاد أستذكر مي مر خالتي الأديبة والمؤرّخة التي ما فتئت تنشر السعادة في أطفال العائلة وتحرص على مشاركتهم هذا الشعور من خلال أمور عديدة نسجت في الذاكرة أجمل الاثواب. فكانت تجمع الأطفال وأنا من بينهم لتقصّ علينا أخباراً عن الإنجيل ويسوع.
وعلى الرغم من أن البعض لا يحبّذ وجود بابا نويل في عيد الميلاد من أجل التركيز على الصلاة وجوهر العيد. إلا أن مي مر كانت تعطي لكل وقت حقّه فتخصّص وقتاً للصلاة ووقتاً للهدايا والعيد. فبعد أن يرحل من لا يحبّذ وجود بابا نويل كنا نحتفل معها بالعيد وبتوزيع الهدايا. أما البسمة فكانت تزّين ثغرها الجميل مشعاً بالسعادة والعطاء. وفي كل قصّة من قصص الإنجيل ويسوع كان لبنان لا يغيب عن لسانها وبالها. فتذكر قصص فخرالدين وهنيبعل هؤلاء العظماء من بلدنا الذين أنصفوا لبنان.
وكانت مي مر تقصد أن تزرع فينا محبّة لبنان وعظامئه بعد محبّة الله. وكم هي عظيمة هذه المرأة في حبّها وعطائها اللامتناهيين. فأخبار هؤلاء العظماء كانت تحولها مي مر إلى قصص تاريخيّة عظيمة. كما أنها كانت تخبر عن قصص من الكتاب المقدّس وعن ظهور العذراء في أرزة لبنان.
هذا كلّه يجعلني أستعيد هذه الذكريات لأشعر بنشوة السعادة والمحبّة، وأدرك كم هو كبير دور الأهل لمحبّة الأشخاص.
وفيما كنت أستذكر هذه الأحداث من طفولتي خلال الإحتفال بقداس عيد الميلاد، أعلن الكاهن عن ضرورة أن ينتقل من يجلس في الطابق العلوي من الكنيسة إلى الطابق الرئيس لأسباب أمنية. فقلت في قلبي لمي مر، بما أنك صرت قريبة جداً من الله وترين لبنان والكنائس مهدّدة، ارمي للبنان نظرة محبة ليكنّ الإرهاب. وعلى الرغم مما حدث من بلبلة في الكنيسة إلا أن المصلين أبوا أن يتركوها كأن الله ألقى عليهم شعور الأمان. وكأن من نحبّهم وقد فعلوا خيراً للبنان وللناس أصبحوا قديسين. فيا خالتي لا تتركي لبنان ولا تشيحي بنظرك عنه. وكما قالت العذراء لإحدى الفتيات اللواتي تظهر عليهن العذراء للبنانيين "أحبكم ولا تخافوا فالله يحبكم".
أخيراً أذكر أن خالتي مي مر كانت بعد أن ينتهي الإحتفال بعيد الميلاد ترتّل معنا وكنا نسمعها بشغف وكانت تقول لي إن زوجها فريدي يحبّ صوتها خصوصاً في الترنيم. فقلت لها مرّة ممازحة "لو لم تكوني أستاذة جامعية ومؤرّخة هل كنت لتدخلي في مجال الفنّ؟؟" فكانت تبتسم لي وتقول: أنت لديك روح النكتة التي تضحكني.
مي مر "خلي عينك عَ لبنان لي حبتي من كل قلبك".