برحيل زياد الرحباني، يطوي لبنان آخر فصول زمن العباقرة، الذين سبقوا الزمن والمستقبل بالنغمة والكلمة التي تحولت رؤية وفكرا وتوجها يصنع مصير أوطان.
برحيل زياد لا يغيب فنان فحسب، بل تغيب ظاهرة بحجم وطن، يغيب العقلٌ الموسيقي والفكر النادر، الذي وقف على مسافة واحدة من الناس والحق، من الألم والأمل.
نودّع فنانا لم يلبس قناعاً يوماً، ولم يدّعِ التفرّد… لأنه ببساطة، كان متفرّداً بالفطرة ومتمردا بموسيقاه التي صنعت هوية للبنان ووضعته في مصاف البلدان المعروفة بمكاتبها الموسيقية.
منذ أن خطّ أولى كلماته، ودندن أولى نوتاته الموسيقية على سلم النجاح، لم يكن زياد ابن فيروز وعاصي فقط، بل كان ابن هذا الوطن المعذَّب. ابن الشارع المكتظ بالأسئلة، ابن الفقر المغلف بالكرامة، ابن الحرب التي علّمته أن الموسيقى قد تكون صرخة لا طلقة. ابن الصدق حين يصبح الصدق موقفاً مكلفاً.
لم يكن فن زياد الرحباني مجرد فن، بل ثورة ناعمة وأحيانا متمردة على السائد والمعلّب.
موسيقاه لم تكن ترفاً جماليًا، بل عمقاً إنسانيًا يتسلل إلى الروح، جرأته في كسر قواعد التلحين، في اللعب على "الربع نوتة"، لم تكن عبثاً فنياً، بل إعادة صياغة للوجدان العربي، بلغة تُشبهه وتُشبهنا.
زياد لم يؤلف موسيقى فحسب، بل بنى مدرسة من الصعب تقليدها، لأن أساسها كان الصدق، وكان الصمت فيها أبلغ من كثير من الضجيج الفني الذي ملأ العالم العربي لاحقًا، وحده من صاغ النغمة كأنها تنهيدة من صدر شعبٍ يئنّ ولا يتكلّم، هذه المدرسة يجب أن تتحول إلى نهج يدرس في المدارس والجامعات نظرا إلى فرادته.
تراتيله في الكنائس، لم تُرنَّم لأنها جميلة فقط، بل لأنها حقيقية ليتورجية، انبثقت من روح صادقة تعرف الله في بساطة الناس، وتُدرك الإيمان كممارسة للحب والعدل، وهي اليوم تنشدها ملائكة السماء مرحبة بروحه الصادقة المحبة لله على عكس ما اتهم يوما بالالحاد.
أما كتابه "الله صديقي"، فكان أكثر من عنوان، كان لحظة تأمل حميمية، فيها من الروحانية أكثر مما في مئات الخطب، زياد لم يفصل يوماً بين الإيمان والعيش، بين الفن والسياسة، بين الحلم والوجع.
أذكره في لقاء تلفزيوني، يوم منعتنا المنتجة المنفذة من الاقتراب منه، وحين لاحظ وجودي اقترب مني، حياني، وأطربني بعسل الكلام، لم يكن زياد نجمًا، كان إنسانًا ببساطة، بصدق، بتواضع نادر.
وفيروز… آه يا فيروز. اهاتك اليوم وغدا وبعد غد توازي الام الحزينة، لم تحب أحداً كما أحبّت زياد، لم تفتخر بأحد كما افتخرت به، كان ظلّها، مرآتها الحقيقية، امتداد صوتها حين تحرّر من المثاليات ليغني الحياة كما هي: بخدوشها، بجمالها، بمرارتها.
مع الأخوين رحباني، غنّت فيروز الحلم والمثاليات، و مع زياد، غنّت الوجع، معه أصبحت أكثر من صوت سماوي، صارت صوتًا بشريًا يتألم ويضحك ويبكي ويعشق.
في وداع زياد العبقري، اناشد وزير الثقافة في لبنان، بأن يُخلَّد اسم زياد، بجائزة سنوية وطنية تكرّم الإبداع الذي لا يساوم، وتمنح اسمه للذين مثله، تجرؤوا على الحلم، وغنّوا للحقيقة.
رحل زياد لكن صوته لن يسكت، سيبقى في أسماعنا هناك في آخر شارع الحمرا، من الشارع الذي عشقه ومات فيه محمولا على أكف اليسار والخصوم وبوحدة حال وهو يقول: "أنا مش كافر… بس الجوع كافر، والذل كافر، والناس اللي ساكته عالحق كافر".
زياد الرحباني برحيله تهوي الأقلام وتصمت الالسنة أمام عظمة ابداعك الذي لم ولن يتكرر.