.
.وصمت الصّوت الصدّاح وتخرسنت الموسيقى وحلّ الظلام على الفنّ، ظلام سيبقى طويلاً قبل أن ينيره صوتٌ جميلٌ عظيمٌ وجبّارٌ كصوت وديع الصافي. هو الذي تعجز عن الكلمات عن وصف مقدراته الصوتيّة وتحديد إمكانياته الغنائيّة والتلحينيّة. إنه ابن نيحا الشوف، ابن الجبل العنيد والشامخ والرصين والمتجذّر بهذه الأرض، إنه وديع فرنسيس الذي اتخذ اسم وديع الصافي عام 1938 بعد أن فاز بالمرتبة الأولى لحنًا وغناء وعزفًا، من بين أربعين متباريًا، في مباراة للإذاعة اللبنانية، أيام الانتداب الفرنسي لصفاء صوته ونقائه.
وديع الصافي الذي يحمل في صوته وعورة الجبال وقوّتها صفاء الأنهار وهديرها غنّى أسعد السبعلي فطل معه صباح الأغنية اللبنانية وتكتك العصفور مطروباً بصوته. كما تعرّف إلى الموسيقار محمد عبد الوهاب الذي ما فتئ يعبّر عن إعجابه الشديد بصوت الصافي حتى قال فيه: "من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت".
إلا أن صيته ذاع بعد أن غنّى عاللّوما اللّوما فصارت الأغنية فلوكلوراً تغنّى على شفاه اللبنانيين متى إجتمعوا. وهكذا بدأ مشواره الفنّي الطويل والشّاق بالمثابرة والإجتهاد والتّعب والسّهر فلحّن وغنّى وأحيا الحفلات في لبنان والعالم كلّه. حمل صوته وجال في العالم صادحاً به أجمل المواويل وأعظم الأغنيات رافعاً إسم لبنان أينما حلّ وناشراً البهاء والجمال والسعادة بأداء عجز كبار الفنانين عن وصفه أو تحديده فهو كان معجزة الفن اللبناني في تنقّله بين مقام ومقام وبين جواب وقرار وبين مواّل وآخر.
ترك لبنان قسراً وسافر إلى فرنسا وفي قلبه ألم على مصير وطنه فغنى الأرز والشموخ والعنفوان وتألّق في المهجر كأنه سفير لبنان سفير الجمال والفنّ والإبداع.
أن تكون مدرسة وأن يحتذي بك الآلاف على مرّ العقود يعني أن تكون وديع الصافي الذي يشكّل بحد ذاته مدرسة فنيّة أصيلة مبدعة ومحترفة لا تقبل الخطأ ولا ترضى بالإعوجاج.
حنجرته المذهّبة لم تبخل يوماً بالعطاء فظلّ يغني حتى رمقه الأخير وقد وهب نفسه للخالق وقدّم له صوته في تراتيل وترانيم شاهدة على صوته الذي يصل إلى السماء.
تربّع على عرش الغناء العربي ملكاً صولجانه الصوت الجبليّ والموسيقى الأصيلة وتاجه من خشب الأرز الخالد.
إلا أن هذا الملك لم يرضَ أن يتخلّى عن هذا العرش إلا ليرحل إلى دنيا الخلود قبل ثلاث سنوات عندما هزمه المرض لكنه لا يستطيع أن يهزم ملكاً خالداً وفناناً عملاقاً. فتاريخ 11 تشرين الأول عام 2013 كان تاريخ انهزام جسد وديع الصافي عن عمر 92 عاماً كلّلها بالعطاء والتضحية والوفاء للبنان. 92 عاماً من الفنّ والجمال والتواضع والسّعادة. رحل الوديع تاركاً إرثاً فنياً أرحب من الفضاء مع أكثر من 6000 أغنية وأكثر من ثلاث جنسيات مؤسساً لمدرسة ترهّبت من أجل الفنّ.
من أسرة موقع "الفنّ" في ذكرى رحيلك الثالثة إلى اللقاء أيها الوديع يا صاحب الصوت الذهبيّ.