ميشال طراد كما ينابيع لبنان حين تتفجّر، هكذا يتفجّر إبداعه كلماتٍ خطّها بحبر المطر على ورق من حور وبوحيٍ من وديان زحلة عروس لبنان. شعره كما نبض قلبه حزناً وفرحاً وطفولةً عابقةً برائحة الربيع الزاهر، الطفولة التي تحنّ أبداً الى ملاعب الصبا الى الفطرة الأولى، الى الحبّ البريء لحبيبة حلوة خدودها حمر كتفاح لبنان وعيناها كاللوز في نيسان.
ميشال طراد الشاعر الذي كتب بالمحكيّة الصادقة مبعداً اياها من الزّجل، خطّ السطر الأوّل من الشعر العامي الذي يرقى الى مرتبة الشعر الفصيح. وسافر به الى عوالم جديدة متنقّلاً بين الطبيعة والحبّ والوجدان والموت والحياة حتّى العبثيّة.
يا ضحكة العسوسني
بين العطر أوعي
وبين الندي تضيعي
وأُبُرم عليكِ هَـ الدني
جلناره الى اليوم تقطف من حدائق الشعر أزهاراً تعبق بالحبّ الصادق وبالغزل العفويّ. جلناره طبعت شعرنا العاميّ، تلك الفتاة الجميلة الحالمة الخجولة التي زينها باستعارات وصور مبتكرة وبتركيبة لغويّة جديدة.
شو بتعمل السنبلة الصفرا بحباتا ودردرلا هني الطير
شو بتعمل الراهبي بقلبا وشهواتا لا تلومها يا دير
نعم، ميشال طراد رائد من روّاد الشعر العاميّ وصانع مجده. عاش في زمن الكبار سعيد عقل والأخوين الرحباني وموريس عواد وطلال حيدر وزرع شعره على أدراج بعلبكّ التي أحبها حتى صارت منزله وعشيقته.
متأثراً بسعيد عقل تميّز شعره بالتلقائيّة وبالتعبير النقيّ وبالتساؤلات الوجوديّة. ففي ديوانه "ليش" نقع على أسئلة وجوديّة وتساؤلات تحيّر ميشال طراد لا اجوبة عليها.
ويبقى صوت فيروز حاملاً على أجنحته كلمات ميشال طراد يلهو بها في فضاء الموسيقى واللانهاية. فالأخوان الرحباني لحنّا قصائد عديدة لطراد من تخمين وصولاً الى جلنار.
تخمين راحِت حلوِة الحلوين وما ضلّ في غير الحبق
تخمين هالقلب إنطبق وما عاد يرجعلي بعد تخمين
وغاب القمر من فوق بيتن غاب
وما عاد رح بيطل واسوّد لون الفل
والزنبقة البيضا الحدِّ الباب
بآخر كل بستان في ممرق
بيجيب عَ بالي البكي
مطرح ما كانت ترتكي
مفرِّخ على شفافُن عشب ازرق
وطالع عريشي معششي فيها الطيور
مطرح ما هرّت دمعتا
وبعدُن بيحكو حكايتا
هونيك كم بنفسجي خلف الصخور
ميشال موسى طراد المولود في زحلة بلبنان. تعلّم في عدّة مدارس، بينها المدرسة الشّرقية في زحلة والفرير والجامعة الوطنية في عاليه بلبنان والكلية الأورثوذكسيّة في حمص بسورية.
عمل مُدرّسًا لمدةٍ قصيرةٍ جدًا ثم عُيِّن كاتبًا في دار الكتب الوطنية ببيروت، وبعدها موظفًا في المتحف الوطني اللبناني ومديرًا لهياكل بعلبك الأثرية بلبنان.
كَتب الشعر باللغة العامية، وهي لغة نابعة من القلب والروح، لغة الفم البسيطة الناعمة"، كما كان يحلو له أن يصفها. كان يُردّد أنّ "مجد الشعر عنده فوق كل مجدٍ.. كلّ ظل يزول إلاّ ظلّ الشّعر".
وشبهه المفكّر اللبناني ميشال شيحا بالفرنسي رونسار، قائلاً :"عندما قرأت "جلنار" أحسست أن عطراً صاعقاً ملأني". وخصَّه مارون عبود بمديح لم يحظ به كبار قبله، وقال فيه انه "شاعر فنان... عفو الطبع، مع أنه يفتش عن الكلمة شهراً وشهرين"، وأن "جلنار" ديوان فيه من "عصارة قلب ميشال طراد وخلاصة شبابه".
وقد زادت شهرة "جلنار" بعد أن لحّن الأخوان رحباني أربع قصائد من الديوان، غنتها فيروز: "ما إجت جلنار"، "عَ طريق العين"، "كم بنفسجي"، "أنتي وأنا"، إضافة إلى قصيدة خامسة من ديوان "دولاب": "بكوخنا يا ابني"... كما لحّن وأدّى وديع الصافي من شعر طراد، واحدة من أجمل وأشهر أغنياته: "رح حلفك بالغصن يا عصفور".
هذا هو عالم طراد، وبالتالي قاموسه الذي يروي توفيق يوسف عواد أنه "لا كالقواميس. قاموس الناس من ورق وحبر. وقاموسه من لحم ودم، بل من جلد وعظم". والمقصود جدته التي كان "يستمع الى أحاديثها وحكاياتها ويأخذ من فمها الكلمات المعتقة ويتسقط كنوزاً من التعابير ضاعت خلال اللهجات اللقيطة التي درجت عليها ألسنتنا".
أما ديوان "جلنار" الذي يعتبره بعض القراء أجمل ما كتب طراد، وأوله وآخره، فقد مهد له سعيد عقل بمقدمة بالعامية اعتبر فيها قصائده "قصة جمال في هذا الشرق تبوح بأسرار كثيرة". وقال إن الكون كان موعوداً بنجمة جديدة "وكنت متأكد أنو رح يخلق ميشال طراد".
يقول الدكتور جورج زكي الحاج الأستاذ الجامعي في الجامعة اللبنانية في حديث خاص لموقع "الفن" عن ميشال طراد:
ميشال طراد مشعرن الزّجل، فقبله كانت ثمة جوقات زجليّة الا أنّ معه الشعر العامي اللبناني تحوّل معه الى شعر وجداني وقد صاغه صياغة مختلفة جداً عن صياغة الزّجل مبتعداً فيه عن المغالاة والمباشرة في الكلام مع العلم أني أحبّ الزجل وأحترمه كثيراً.
أمّا جلنار فهو فاتحة الشعر العامي في لبنان ومقدّمة سعيد عقل تعتبر من عيون المقدمات وبيان للشعر العاميّ اللبناني.
ومما لا شكّ فيه أنّ لسعيد عقل دوراً كبيراً في تطوّر الشعر عند طراد فيجب ِألا ننكر فضل سعيد عقل الذي أسّس لهذه المدرسة في الشعر العاميّ.
وفي سؤال عن الرمزيّة الموجودة في شعر طراد أجاب د.الحاج أنّ تأثّر طراد في سعيد عقل طبع شعره بنوع من الرمزيّة التي كان سعيد عقل رائدها في العالم العربيّ خصوصاً في كتاب "رندلى". لكن يبقى أن نشير الى أنّ الشعر لا يمذهب فالمدارس في الشعر هي تصنيف وضعه النقاد لتقسيم مراحل الشعر لكنّ عقل عمل على تصفية الشعر منها بمناداته بالشعر الصافي متأثراً بالأب هنري بريمون. لكنّ طراد كان يكتب الشعر العفويّ. وهو شاعر فقط من دون اضافات.
وبما يتعلّق بعلاقته بالرحابنة ذكر د.الحاج أنه كان يصطحبه الى ضفة نهر البردوني وكان يخبره أن الأخوين الرحباني سرقا من شعره. لكنّ هذا غير صحيح فقد يتفق الشعراء في بعض الصور وعلاقته بهما اضافة الى شهرته ومسيرته الشعريّة.
وعن المرأة في شعر طراد يشير د.الحاج الى أنّ المرأة عند ميشال طراد تختلف عنها عند سعيد عقل. فالمرأة عند عقل لا تلمس هي في الخيال أي قبل السقوط بينما عند طراد هي المرأة الحبيبة التي تلمس وتحبّ ولها جسد وروح.
وفي سؤال عن الحداثة في الشعر الفصيح وعن الحداثة في الشعر المحكي أكّد د.الحاج أنّ الشعر العامي هو شعر حميميّ قريب من الناس ومن العامة وهو شعر صادق لا يتناول موضوعات حداثويّة كالتي تناولها رواد الحداثة الذين لا أؤمن بحداثتهم فالحداثة بالنسبة اليّ هي الأصالة.
أما عن الحرف الذي اخترعه سعيد عقل فأكّد د.الحاج أن ميشال طراد رفض الكتابة به كما رفض هو بينما شعراء وكتاب آخرون كتبوا به مثل رفيق روحانا ومي مرّ وميشال كعدي.
كما ختاماً شدّد د.الحاج على أنّ طراد تناول موضوعات عميقة جداً في الماوراء والطبقيّة وغيرهما من الموضوعات لكنّ المرأة تبقى الشغل الشاغل للشعراء العرب.
من قصائده المغنّاة قصيدة "رح حلفك بالغصن" التي غناها وديع الصافي:
رح حلفك بالغصن يا عصفور
بالورق بالفي بالنبعات
بالزيّح جناحك بريشة نور.
بالمرجحك مع زرقة النسمات
بتطير ياعصفور
عا كوخ من وزّال
غويان، سقفو زهور
مفروش بالعنبر
وحب الندي الأخضر
دني ظلال ظلال
بتقشع عريشي وباب
بفيّتا مزوي
،وحلوي بايدا كتاب
سلّم على الحلوي
وان هديت رياحك
بتمرمغ جناحك
ع السطح ع الحيطان
ع تياب مدريـّي
ع البسط ، ع القمصان
ع كل شي تخزق
ع المقعد الأزرق
ع القمر السكران
البيزكرّا فييّ
وان كان ما في شي
من حبنا باقي
بتسكت الساقي
يا طير، وبتمشي
وبتغط تحمليّ
يا من هاك التليّ
يا من هداك الغاب
شي زكر، شي قشّي/
ومن خرطشة ديها
ومن تحت اجريها
شي نقدتين تراب
وقصيدة "جلنار" التي غنّتها فيروز:
يا صبح روج طولت ليلك خليت قلبي نار
بلكي بتجي أختك تغنيلك بلكي بتجي جلنار
صرخات عم بتموج بالوادي معنزق عليها ضباب
لبعيد عم بتروح و تنادي بيظهر حبيبو غاب
راعي بكي و منجيرتو متلو بكيت تيتسلى
شو قولوكن عالسكت قالتلو شو قولكن قلا
خليك حدي تيروق الجو و رندح و سمعني
و لمن بيطلعلك يا راعي الضو تبقى تودعني
وقفت قلبي عالدرب ناطور تفاق ألف نهار
ووعيت الشمس و زقزق العصفور و ما إجت جلنار .