الإبتكار والأفكار الخلّاقة هي حكر على أصحاب الطموح والإرادة الحرّة، إنها من أهم المبادئ الأساسيّة التي صاغها المفكر الكبير "نيتشي" في دراساته الإنسانيّة.
والعمل الإعلامي هو من صلب الحياة الإبداعية التي تتطلّب بالدرجة الأولى، عقلاً حاضراً للخلق المتجدد يومياً. ولأن الذكاء الإنساني يزيد بفعل الخبرة ونقل المعلومات من جيلٍ إلى جيل، كان لا بد للمواد الإعلامية المقدّمة من قبل تلفزيونات لبنان من أن تتقدّم معها، إلا أن القاعدة إنعكست، فأصاب إبداع العقول التلفزيونية مرض الألزايمر المُبكر ونقص التروية في أوردة التجديد والتطوّر، فأصبحت البرامج التلفزيونية اللبنانية كمخلوقات "الزومبي" ، أمواتاً تُحيا من جديد ، لتمشي برتابة الصورة وتكرار المضمون.
شهد لبنان في فترة التسعينات، ثورة صناعيّة تلفزيونيّة، كانت محطة المؤسسة اللبنانيّة للإرسال LBCI هي رائدتها، فعشنا معها عصر الأرستقراطيّة الإعلامية، وكانت للطامحين للشهرة أصعب من هوليوود، والساعون لتقليدها أصعب من الحلم. كانت المؤسسة حينها تُدار بعقل الإدارة وعاطفة "القضية"، كانت المرفّه عن حُكم "قرقوش" وآخر أوكسيجين حريّة في هواء لبناني إغتصبه تلوث المؤامرات.
مَن مِن اللبنانيين لم يضبط رزنامته عند كل سنة، في شهر آب ليعرف ماذا حضرت الـLBCI في عيدها السنوي، أسيكون قرب الماء على شط بحر النجوم المتنقلين بقوارب فوق المياه وتحت سماءٍ تزينها نجمة الشاشات، أم أننا سننتظر المشاهير وهم يرتدون أزياء تنكريّة لشخصياتٍ معروفة، يضيفون بها على مكسرات الجلسة الكثير من منكهات الإبتسامات النادرة.
من منا لا يتذكّر برامج المواهب التي أشرقت مع شمس الـLBCI قبل أن تكتشفها الشاشات العربية اليوم بعد مغيبٍ وفي ليل التأخر؟ كان صانع النجوم سيمون أسمر وصانع أقمار الفضائيات الشيخ بيار الضاهر يحوّلان محطة تلفزيونيّة إلى قرية إعلامٍ كونية، تحمي ما تبقى من حرية وإبداع في أزمنة ردم الحرب وإعادة إعمارٍ إستنسابيّة.
البرامج كانت لا تنتهي، الترفيه موجود، الرياضة حصرية، الجمال رياديّ، السياسة حرة "قدر المستطاع" ، برامج الأطفال إبتكار حنين وذكريات، والأغاني الترويجية للمحطة كانت على مستوى صناعة الأفلام وأكثر.
كما يُذكر لشاشة المستقبل، دينامكية غير مسبوقة في الإنتاج والإبتكار، كما في صناعة نجومٍ في كل المجالات من التقديم، إلى الطبخ، مروراً بعلم الفلك ، إختصاصيي التغذية والجمال. فكانت محطة إنطلاقٍ أرضية ، لنجوميةٍ سمائية-فضائية.
ولكي لا ننسى، فقد كان للـ MTV مساحة واسعة من إبداعاتٍ لا تُنسى، عبر ريادة برامج الترفيه والإبتكار الجديد، كما بطرح المضمون الدسم بإعداده، من "خليك معنا" إلى "أسأل شي" و شبابية "آت أم تي في".
أما اليوم، فالبرامج أصبحت كالمسخ المستنسخ، لا تحمل جديداً إلا عبر إستبدال الورق بالـ "آي باد" والصحيفة بوسائل التواصل الإجتماعي. تغيّرت الموضة، أُنزلت "الغرّة"، أُضيف ماء "البوتوكس" ليزول تيمم "الطبيعية"، إستبدلنا "راء" الفرنكوفونية بـ "راءات" الأنغلوفونية، لنواكب عولمة العم سام ، ونقطة على الضجر.
وإن إستعرضنا البرامج التي طرحتها "إبداعية" عقول المعدين في التلفزيونات لوجدنا أنها ليست إلا إستحضارات لأشباح الماضي، بلباس عصر التغريد والوعيد. هذا طبعاً من دون أن نمرّ بالبرامج "الملطوشة" من الخارج، بحجة مواكبة العالمية، وبإنكار لمرارة حقيقة الكسل في العمل و الإبتكار، على سبيل المثال لا الحصر، برامج : حديث البلد- ديو المشاهير- آراب أيدول- رقص النجوم الخ....
وطبعاً مع ذكر البرامج "نصف الملطوشة" ، أيّ المعدّلة لتناسب الرأي العام العربي كبرامج : هيدا حكي- لهون و بس- شي إن إن. فهي برامج مقتبسة بتصرّف من "دايفد لاتيرمين" و "كونين أو براين".
أما في ما خص البرامج المنبوشة من قبور الإعلام، نبدأ بـ "هيك منغني" الذي لا يختلف عن المرحوم "يا ليل يا عين"، إلا بالجيل الجديد، و اللبس "الحديد".
ثانياً برنامج "ذي لايديز"، أليس هو نفسه "الليلة ليلتك" الذي كان يُعرض على الـLBCI أيام الهواتف النقّالة بآنتيناتٍ طويلة؟
ثالثاً برنامج "لاقونا على الساحة" ألم يُستطرد من أرشيفٍ مسّه الغبار لبرنامج "الأول عل LBC"؟
ماذا عن برنامج "إسألوا مرتي" ألا يطبّق قواعد برنامج "شوف حالك" الإعرابية ، مع تغيير بالفاعل والإبقاء على المفعول به؟
وإن إنتقلنا إلى برامج "الضروب" بمزاحاتها من أول عتبة الهضامة إلى آخر سلم الغلاظة، أليست هي نفسها كبرنامج "الكاميرا وين"؟
ألا يُعدّ برنامج "أغاني أغاني" هو "بيبسي ميوزيكا" أيام عزّه و صباه؟ قبل أن يصبح كهلاً بفعل جيل "ستار أكاديمي"؟
ماذا تختلف برامج الفترة الصباحية اليوم عن "عالم الصباح"؟ غير أن حينها تحدثوا عن مسرحية "الأسطورة لصباح" واليوم ينعونها ويستذكروها؟
أين إبداع "ليلة حظ" و "عالباب يا شباب" و"دراج الحظ" ،أين الترفيه الذي على مستوى "ميشو شو" و "خليك معنا" و "من كل ميلة عيلة"؟ أين الصحافة الفنّية المتساوية مع "ساعة بقرب الحبيب" ، أين سهرات رأس السنة التي تُنقل من أماكن عديدة في ليلةٍ واحدة، كتلك التي حملت توقيع سيمون أسمر الإبداعية؟
لماذا إطالة أعمار مواسم البرامج وهي بالأساس مواسم قحطاء، تعاني من بُخل الإنتاج وشحّ التصريف؟ ما الفارق بين برنامج نيشان الأول والثاني والثالث والعشرين وما بعد العشرين، غير الكرسي والمرآة والضيافة؟
ما الذي يميز برنامج جورج صليبي وجان عزيز ووليد عبود ومارسيل غانم عن بعضها البعض غير الديكور و"لوغو" المحطة؟ حتى الضيوف يتنقلون من ستوديو إلى ثانٍ ليعبّوا فراغات الهواء.
أين الحفلات السنوية؟ أين برامج أعمال الخير وتغيير حياة الناس، أين شاحنة الـLBCI التي تقص شريطها لتفتح لك باب التغيير ؟ أين ميشال قزيّ في ملعب حلب ومئات الآلاف يجهزون أيديهم ليمدوها عن إشارة "إلك"؟ أين قهقهات "أسأل شي" بين دمعة الضيقة الإقتصادية وغصّة قمع المخابرات؟ أين كأس النجوم بأولوية الإنتماء اللبناني البعيد عن شحذ تصويت المحيط والخليج؟ إلى أين ذهب "خليك بالبيت" و"جار القمر"؟ أين مجد المهرجانات والألعاب الرياضية بكؤوسها المرفوعة؟
أين وأين وأين؟؟؟ يبدو أن مجد الإعلام قد نُكس ، وقد جنت على نفسها براقش.