لعل أبرز ما تحتاج إليه السينما اللبنانيّة هو تبنّي لعملية التحديث في النهج والمضمون، بدءاً من سيناريو لا يغلّفهُ غبار من أمجاد إم ملحم و أبو ملحم، مروراً بأداء تمثيلي لا يستوحي تعابير التمثال المتحرّك الآتي من زمن ثمانينات القباحة والرتابة. وصولاً إلى إخراج إبداعي لا يقدسّ كسل الإطار الواحد في المشاهد.
صحيح أن الإنتاج في لبنان يعاني من قحطٍ ونقيق، ويرتدي رداء الجاحظ ببخلائهِ، لكننا شهدنا في السنوات العشر الأخيرة تطوراً ملحوظاً بالمنتجات السينمائية اللبنانيّة على قلّة عددها. لكن في لبنان تعوّدنا على مبدأ "القليل أفضل من لا شيء" في الكهرباء والماء والخدمات الإجتماعيّة كذلك في الأعمال الفنيّة من كل المجالات.
لا تزال الصالات اللبنانيّة تستقبل زوّار فيلم "شي يوم رح فلّ" وهو عمل سينمائي من إخراج ليال راجحة ومن بطولة عادل كرم ولورين قديح. وبالرغم من الأخطاء الإخراجيّة الكثيرة التي كسرت من هيبة الفيلم وبالرغم من ضُعف النص من الحبكة إلى السيناريو. لا يمكننا كمشاهدين إلا أن نرفع قبعة الإنبهار لهذين الممثلين، اللذين غطيا العيوب وسرقا عيننا الناقدة وإستوليا على إنتباهنا الكُليّ.
عادل كرم، المطبوع في أذهاننا ببذة الكوميديا بحديّ سيفها، التمثيليّ والإعلاميّ، نجح في تجسيد شخصيةٍ جريئة وجديّة إلى أقسى حدّ ، كما نجح أيضاً بإقناع المشاهدين على أنه ممثل درامي تليقُ به الكاميرا وتفرحُ به الأضواء.
أما لورين قديح، فهي "وحشة" هذا العمل ، كما سابقه. هي من بمهنيّةٍ عالية تعطينا الإثارة المضحكة، الدرامة المرحة، الكوميديا السوداء والتمثيل الأكثر من طبيعي.
لورين ، خريجة معهد التمثيل في الجامعة اللبنانيّة، هي للتمثيل هاويةٌ بقوةِ إحتراف، هي إبنة عكار التي حملت في زوادتها طموحاً يليق بالمدينة الكبيرة بيروت، فكان لها ما تريد أوراقٌ من نوع السيناريو وكاميرا من نوع المهنيّة. هي تلك المرأة القويّة بصدقيتها "العكارية"،هي الكاسرة لحدود أدوار المدمنة وبائعة الهوى، هي الباكية من دون دموعٍ إصطناعية .
بدأت لورين مسيرتها التمثيليّة في مسلسل "من أحلى بيوت راس بيروت" ومن بعدها عانت مرارة البُعد وسكينة الروتين لتعود في فيلم "ماي لاست فالنتاين إن بيروت" ومن بعده "حبة لولو" ، والآن ترتفع صورتها كما إسمها عالياً على ملصقات فيلم "شي يوم رح فل". لا يمكن للمشاهد إلا أن يلاحظ عيون زائري صالة السينما كيف تبرق عند بدأ كل مشهد من مشاهدها ، وكيف يصبح الصمت الراعي الرسمي لصالة السينما عندما تظهر في المشهد الجديد.
غريب كيف "للبنت الهبلة" التي لعبت دورها لورين في الفيلم، أن تجمع الغباء بالإثارة، بالدراما والكوميديا. غريبٌ كيف لمشهدٍ جنسيٍ فوق الطحين وبين السمك، أن يعيشهُ كل مشاهدٍ على ذوقهِ أو وفق حالته النفسية، منهم من شعر بالإثارة، منهم من ظنه كوميدياً، ومنهم من عاش الدراما في الموسيقى وحركات تعبير الوجه.
غريبةٌ نظرات لورين في المشاهد، كيف تبتعد عن هذا الواقع وكأنها تعيش بمحاذاة الحياة والمشهد، تنظر بعيداً وكأن لا ممثلين بقربها، لا مخرجٌ من أمامها، لا حقيقةٌ لكاميرا، ولا نورٌ من إضاءة.
في المشهد الذي تمزّق فيه كرتونة البيتزا التي تعني لها الكثير، أفهمتنا موهبة لورين التمثيليّة بأن الكرتونة هي كما الصورة العزيزة، المخبأة تحت الفراش. أفهمتنا بلغة جسدها الصلبة، أن الكرتونة هي جزء من حياةٍ وذكريات، وأن ما قامت بتمزيقه هو أكثر من كرتونة، هو أملٌ بحب، وطوقٌ للخلاص. مشهد يصعب على ممثل ويهون على لورين قديح.
أيضاً وأيضاً، أفهمتنا جيداً كيف لحياة المرأة "الساذجة" مكانٌ للصداقة الشفافة النظيفة، التي لم تتسخ بغبار النفاق ولا بزيوت الغدر والنميمة. فهي بغبائها ، أيّ الشخصية، أحبت وصادقت، وعرفت غراماً طفولياً حتى بلحظاته الجنسيّة.
قويةٌ هي لورين، تقدمّ كوميديا سوداء، وكأنها تخرجت من على خشبة "موليير" مبتكر هذا النهج وخالق فكرته. قويّةٌ هي لورين، كيف تبكينا وهي تضحك، وكيف تضحكنا بدموعٍ تدغدغُ خديّها وقلوبنا في آن . قويّةٌ هي لورين، فعلمتنا جيداً في هذا الفيلم، أن الإبداع كما الروح، لا يعبّر عنه جسد ولا تمثّلهُ حركات.
فبما لا شكّ فيه، أن لورين قديح كُتبت فصلاً مهماً في سجلاتنا السينمائية اللبنانيّة، أمست مُتعةً لعيوننا آيلة للإدمان، أصبحت إسماً على قدر "مانشيت" وعلى مستوى عناوين ، وبقيمة حبر الصحافة. لورين التي عانت من قساوة زملاء العمل في هذا المجال ، ها هي اليوم تكسر غرورهم بنجاحها، ها هي تنتصر بشهرةٍ صغّرت وَهم شُهرتهم، ها هي تغلبهم بسلاحهم وتسبقهم إلى فوق، حيث لم يعد لهم خبزاً.
لورين قديح، أعطت للسينما اللبنانيّة ذكاءً في الأداء، وقلبت الطاولة فوق رؤوس الرتابة والتزلّف والإبتذال....وتحجز اليوم لنفسها مقعداً في الصف الأول بالعنوان العريض.