قبل الأوان انتهت حكاية الشابة ميلاني فريحه (25/7/1996 – 1/2/2015) .
.. انتهت بفاجعة ... صارت وعداً لم يكتمل... وسط لوعة الأهل وأسى كل من عرفها وعايش طموحاتها الكثيرة... حتى الذين لم يسعفهم الحظ بالتعرف اليها، فانهم ادركوا قيمتها من خلال ما قرأوه عنها في الصحف، ومن خلال الكتاب المميّز الذي تداعى اصدقاؤها لوضعه عنها وتم توزيعه في الذكرى الاربعين لغيابها.
بدورنا، وتخليدا لذكرى الشابة ميلاني وتعميما لتجربتها، التي تصلح لان تكون نموذجا يهتدي به الشباب اليوم، ننشر هذه الحلقات علّنا نفي الفراشة التي رحلت قبل الموعد بعضاً من حقها. كان لميلاني فريحه عائلتان، عائلتها البيولوجية التي ترعرعت في كنفها تحت جناحي الوالد والوالدة، ومع شقيقتين تعيشان اليوم ذكراها بأسى شديد.
وعائلتها الانسانية الواسعة القائمة على صداقة متينة ربطتها برفيقات ورفاق منذ ايام الدراسة الاولى، وصولاً الى الجامعة، اضافة الى اصدقاء الرياضة والموسيقى وجمعيات الشباب والعمل الانساني الواسع. ميلاني، من خلال هؤلاء الأصدقاء، ومعهم، عاشت حياة اطول من سنواتها الربيعية القليلة. "كانت أكبر من عمرها"، هذا هو الانطباع العام عنها. وهي بالفعل نسجت في حفنة من السنوات علاقات صداقة يعجز الكثيرون عنها طوال عمر كامل.
وكم كان وقع رحيل ميلاني مؤلماً على كل هؤلاء الاصدقاء. لقد أحسّوا بأنهم فقدوا جزءاً غالياً من حياتهم عندما فقدوا ميلاني. والغريب ان هؤلاء الاصدقاء الموزعين على اختصاصات كثيرة والآتين من اهتمامات متنوعة، ينتمون الى اعمار مختلفة تبلغ أحياناً ضعف عمر ميلاني وأكثر. معلموها، مدرِّبوها واعضاء الجمعيات الدولية التي انتمت اليها، كلهم يفوقونها عمراً، ولكنهم كانوا يعتزون بصداقتها، كما عبّروا بعد الرحيل.
في مطلق الاحوال، هؤلاء الاصدقاء جميعاً هم الذين تداعوا ليضعوا هذا الكتاب الرائع عن ميلاني. انه كتاب وثيقة ستعيش الى الابد في بال اصدقاء ميلاني وكل من عرفها او سمع عنها. لا بل ان هذه الاندفاعة دفعت ببعض من هؤلاء الاصدقاء الى وضع كتيِّبيْن عنها على طريقة الرسوم المرفقة بحكايات النجمة الرائعة التي كان اسمها ميلاني!
منذ البداية كانت ميلاني مندفعة للعمل في الشأن العام، على مستوى التلامذة في الصفوف الصغيرة، والدليل على هذا انها اختيرت اكثر من مرة مندوبة عن رفاقها في المدرسة لرفع مطالبهم وقضاياهم الى الادارة. وهذا ما درّبها أكثر فأكثر على العلاقات العامة والحوار مع الآخرين. وهذه بوابة لا بدّ منها من أجل اقامة الصداقات وتوطيد التعاون مع الناس.
كان اهلها يعرفون جيداً حجم شبكة الصداقات التي نسجتها ميلاني في حياتها القصيرة جداً... لكن حجم تلك الشبكة اتضح لهم أكثر فأكثر بعد رحيلها. ذلك ان عدد الذين بكوا لغيابها وتأثروا بعمق يؤكد على اتساع شبكة الصداقات تلك. وليس رفاقها فقط هم من تأثر، انما بكاها ايضاً اساتذتها ومدراء الاقسام في مدرستها وصولاً الى رئيس الجامعة الاميركية بيتر دورمان، الذي اعرب عن اساه العميق لأن ميلاني فريحه ذهبت باكراً الى البعيد فكتب يقول:" ان صدمة المأساة أثرت فينا جميعاً. صعب جداً ان نتقبل رؤية شباب نابض بالحياة مثل ميلاني يمضي بعيداً عنا في وقت مبكر جداً".
اما رئيس رابطة خريجي مدرسة سيدة الجمهور في الجامعة الاميركية، كارل قطار، فكتب فيها كلاماً مؤثراً للغاية جاء فيه:" لقد كنتِ فرداً من عائلة الجمهور منذ كنتِ في السادسة من العمر. شاهدناك تكبرين وتتحولين من فتاة ناعمة وذكية وصاحبة اوسع ابتسامة في الصف، الى شابة نابضة أبدعت في كل عمل قامت به. رأيناك تكتسبين وترسخين كل المزايا التي يحلم بها كل انسان: القيادة، المثابرة، المرح، الجرأة، الاستقامة، التميّز وأكثر. ربما ان الحياة أخذتك بعيداً لتصبحي مصدر إلهام، لكن هذا ليس عادلاً لأنك في حياتك كنت مصدراً لمثل هذا الالهام".
واختصر ناجي الخوري، الامين العام لرابطة قدامى مدرسة الجمهور، المأساة وقيمة ميلاني حيث قال:" صحيح ان ميلاني تركتنا باكراً جداً لكن ليس باليد حيلة. ربما هي احتجبت عن عيوننا لتبقى في قلوبنا وضمائرنا وأرواحنا. في رحلتها القصيرة على الارض، ثمانية عشر عاماً ونصف العام، تركت آثاراً لا تُمحى في مدرستها. قامت صداقات كثيرة وحققت انجازات زرعت من حولها الحياة والفرح والصداقة. ان تأثيرها عظيم جداً (...) اصبحت وكأنها "اسطورة، وهي بالتأكيد مثال ورمز".
وقد وصلت صداقات ميلاني، رغم صغر سنها، الى مستويات عالمية من خلال انتمائها وتنسيقها مع تنظيم Youth Futures International الذي كانت تمثله في بيروت وكانت تسعى لأن توصل صوت هذا التنظيم الى المسؤولين في لبنان. دايف باتلر، رئيس هذا التنظيم، اعرب عن تأثره البالغ لغياب ميلاني المفاجىء، وأعلن وفاءً لذكراها وتقديراً لها عن اطلاق منحة دراسية على اسمها، مخاطباً الراحلة الشابة حيث قال :" يا ميلاني ... ان قدرتك على الايحاء بالأفكار ستستمر".
ولم تقتصر صداقة ميلاني على رفاقها او اساتذتها وانما امتدت ايضاً لتشمل عدداً من ذوي رفيقات لها او مِن معارف عائلتها. وهذا ما يؤكد على ان حضورها المحبّب كان يشيع من حولها جواً من المودة والتقدير. ولعل في الكلام الذي كتبه وزير الثقافة، روني عريجي، صديق العائلة ما يعبّر عن كل هذا، عندما عقد مقارنة بين غياب ليوبولدين ابنة الشاعر فيكتور هيغو في التاسعة عشرة من العمر ورحيل ميلاني في عمر مشابه، فاستعار عبارات الشاعر المفجوع بابنته الشابة مؤكداً انه يعبّر بها عن "الأسى والحزن في محاولة للبحث عن العزاء"، رغم انه مفجوع بغياب ميلاني التي كانت "بمثابة ابنة لي"، كما قال.
وكتب صديق الطفولة للعائلة النائب جوزف انيس معلوف كلاماً مؤثراً ووجدانياً بلغة القلب وبالعامية فقال:" يا ربّي دخلك قِلّي... ليش سرْقتا بهالسرعة؟/ يا ربي دخلك قِلّي.../ ليش طلعتْ عليها القرْعة؟/ ليش يا نبع المحبة،/عذّبتْ أم عمْ تربّي/وبالأمل تزرعْ ايمان.../ وبَيّ بقلبو مخبّي/كمشة صدق وحنان/ (...) وسمعت صوت من السما/قلّي/يا ولادي ... لا تعتبوا عليّي/ ولا تزغْزغوا ايمانكن فيّي/ ... مشْ أنا سرْقتها مِنكن/ إنتو استعرتوها مِنّي/ ... ميلاني، كانت ملاكْ/بيتها أصلاً بالجنّي".
هكذا تعمّمت صداقات ميلاني فتحولت الى كنز من العلاقات الانسانية الصافية، جمعته الفراشة الراحلة بالابتسامة الدائمة وبالاستعداد المستمر للتحاور مع الناس ولتقديم المساعدة حيث يجب وفي الوقت المناسب... لكن الوقت لم يكن مناسباً لهذا الرحيل، ذلك ان كل من حول ميلاني كان لا يزال بحاجة اليها... أهلها... اصدقاؤها... رفاقها... جيل كامل كان لا يزال بحاجة الى ابتسامتها والى احلامها والى ديناميكيتها الجبارة التي جعلتها تنجح في كل ما قامت به من مشاريع، ملأت عمرها القصير بالانجازات فجعلته أعماراً... ليت الوقت امهلها قليلاً... ليتها لم تتحول الى وعد لم يتحقق بالكامل. في مطلق الاحوال هي نظرت الى الوقت، ومن خلاله الى العمر، نظرة خاصة، نظرة فلسفية اكبر من عمرها بكثير، جسدتها في نص كتبته بالانكليزية بتاريخ 14/6/2012 وهذا أبرز ما جاء فيه:
"اعتدنا القول بأن الوقت سيخبر الوقت هو كل ما لدينا الوقت يموت وقتنا يمضي نجزع نهلع نتوتر لكن فلنواجه الأمر كما هو: نحن نفرغ أنفسنا من السعادة ومن السلام الداخلي ... الابتسامة هي السلاح الأوحد الذي لدينا. انها تحمينا من البؤس، ومن الألغاز، ومن كلمة هائلة اسمها القدر. انها سلاح يبعدنا عن الحزن والمرض والتوتر والحرب والخطر... هذا السلاح هو لخدمة جيش هائل اسمه السعادة. هذا الجيش الهائل تأسس في مدى، في مدى لا ينتهي، في مكان غير محدّد، هو عالم غير محدد، كون أبيض، أسود ... مَن يدري. وحده الله يقودنا /اتبعوه، لن ينتهي منكم الوقت/ لأن الوقت يموت ووحده الله خالد".
شجرة الارز التاسعة عشرة
في محمية اهدن ثمة مكان مخصّص لميلاني فريحه تكريماً لذكراها وتأكيداً على قيمتها كرمز لابناء جيلها. في هذه المحمية هناك 18 شجرة ارز على اسم ميلاني التي غابت عن ثمانية عشر ربيعاً. وتأكيدا على الاستمرارية في احياء ذكراها سيتم في كل عام، غرس شجرة ارز جديدة في المكان نفسه. وبالفعل، يوم السبت الماضي، اصبح عدد شجرات الارز في espace Melanie Freiha في اهدن تسع عشرة شجرة! ووسط المكان ثمة نصب رمزي مهم جدا يمثل ميلاني فريحه، البطلة الرياضية، تسير وكأنها تطير، بين شجرتيْ أرز يافعتين!