في ليلة العاشر من تموز، تنفّس قصر بيت الدين جمالًا، وهو يفتتح مهرجاناته لعام 2025 بأمسية فنية استثنائية بعنوان "ديوانية حب"، سهرة جمعت الطرب بالشعر والمسرح، فامتلأ المكان بعبقٍ من الأمل والفرح، وتزيّنت الذاكرة بلحظة من سحرٍ لا يُنسى.

السهرة التي صاغت رؤيتها الفنية وأخرجتها الفنانة جاهدة وهبه، كانت بمثابة مشهدٍ حيّ من "ألف ليلة وليلة"، حيث اعتلت المسرح إلى جانبها صوتان لامعان في الغناء العربي: ريهام عبد الحكيم من مصر، ولبانة قنطار من سوريا، برفقة فرقة موسيقية متمكّنة بقيادة المايسترو أحمد طه من مصر.

استُهلّت الأمسية بكلمة مؤثرة من جاهدة وهبه رحّبت فيها بالجمهور والمشاركين، قالت فيها: "جئتم من كلّ حدبٍ وصوب… ومن جهة القلب، أهلًا بكم جميعًا. بكلّ من حضر وأضاء هذا المساء بحضوره الكريم، لعلّ هذا اللقاء يكون من شذى البدايات… ومن بشائر العهدِ الواعد، عهد الفنّ، والأمل، والإنسان." وأعربت عن امتنانها لإدارة المهرجان وتمنّت أمسية ممتعة للحاضرين.

البرنامج الفني للأمسية مزج بين أعمال جاهدة وهبه الخاصة، التي قامت بتلحينها، وبين باقة مختارة من الموشحات الشرقية وأغاني كبار الطرب: أم كلثوم، أسمهان، وردة، صباح، وديع الصافي، زكي ناصيف، عبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة. التجربة جمعت بين روح التراث وأبعاد التجريب، في قالب مسرحي شعري طربي، اتّسم بالحميمية، وكأن الجمهور كان ضيفًا في مجلس شرقي خاص.

تناغم الأصوات النسائية الثلاثة وحضورهُنّ المسرحي الراقي خلق لحظات استثنائية، خاصة في الخاتمة الجماعية التي احتفت بالحبّ والفرح والحنين، عبر أغنيات تسكن في ذاكرة المستمع العربي.

لكن الليلة لم تنتهِ هناك. فبعد انتهاء الفقرات الرسمية، تجاوبًا مع الحماسة الكبيرة والتصفيق المتواصل، قدّمت الفنانات ثلاث وصلات إضافية، امتدّت لأكثر من أربعين دقيقة. ومع هذا التفاعل، تحوّلت الأمسية إلى لحظة احتفال جماعي، بلغ فيها الجمهور أقصى اندماجه، إذ نزل كثيرون إلى الساحة للمشاركة في دبكة عفوية ارتجالية، وسط أجواء نادرة.

وقد انضم إلى هذه اللحظة الاحتفالية رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وعدد من الوزراء، الذين اعتلوا المسرح بتلقائية، بعيدًا عن الرسميات، في حين شاركت كل من السيدة الأولى نعمت عون والسيدة الأولى السابقة منى الهراوي بالغناء والتفاعل من مكانهما، في مشهد استثنائي لم تشهده المهرجانات من قبل، أثبت أن الفن الأصيل يستطيع أن يوحّد الناس حول الفرح، بعيدًا عن الألقاب والمناصب.

جاهدة وهبه، التي أطلت بتصميم أنيق يحمل توقيع ماجد بو طنوس، استهلّت الحفل بتحية غنائية كتبتها ولحّنتها بنفسها إهداءً لقصر بيت الدين، كما خصّت السيدة فيروز بتحية مؤثرة قالت فيها:

"ليالٍ هنا كُتبت بنوتات عالية، وأخرى هُمست كالصلاة... لكن الصفحة الأعمق في الذاكرة تبقى تلك التي مرّت فيها سفيرتنا إلى النجوم، فيروز. في الأعوام 2000 و2001 و2002 و2003، دخلت القصر... فارتفع القمر، ارتجف الوقت، وسكت كلّ ما عداه. غنّت كأنها عمّدت المكان بميرون صوتها. وغناؤها كان عهدًا بين الجبل والروح، بين الجمال والذاكرة. واليوم، نحني الرأس للصوت الذي 'وسِع الوطن'، ونُهديها من القلب تحيّة: ارجعي يا ألف ليلة وليلة."

منذ انتهاء الأمسية، عجّت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بصورها ومقاطعها، مرفقة بتعليقات تحتفي بما شهدته الليلة من طرب وصفاء. ووصفها البعض بأنها أكثر من مجرد حفل، بل طقس من الجمال، يُعيد تعريف الفرح ويوقظ ذاكرة جماعية كادت تنطفئ.

هذا النجاح لم يكن ليتحقق من دون الجهود الكبيرة خلف الكواليس. من إدارة الصوت والإضاءة، إلى التنسيق والإشراف على التفاصيل، لعب الفريق التقني دورًا محوريًا. وقد تولّت جانا وهبه تنفيذ الإنتاج ومتابعة الجوانب اللوجستية، بينما ساهم كريم مسعود إلى جانب جاهدة وهبه في وضع التصور الفني والتصميم السينوغرافي الذي منح العرض بعده البصري الخاص.

كما لا بد من الإشادة بفريق مهرجانات بيت الدين، الذي أصرّ على مواصلة هذا الحدث الثقافي العريق رغم كل التحديات، وأثبت أن الفنّ الرفيع ما زال قادرًا على الانتصار، وأن الحبّ يمكن أن يكون، ببساطة، عنوان افتتاح يستحق الانتظار.