من مدينة الشمس "بعلبك" إلى العالمية، تفرد منذ إنطلاقته بأسلوبه الفريد، وحقق لنفسه نموذجًا مغايرًا على كافة الأصعدة، فرافق عمالقة عصره، ليرتقي بنفسه إلى المكانة التي لطالما طمح إليها.

من مهرجانات بعلبك، وشعر الشاعر الكبير سعيد عقل وحلم الأخوين رحباني بـ لبنان الفن، إنطلق عبد الحليم كركلا بنموذج فريد، ورافق كل الأجيال بلوحات راقصة تبهر العيون، وبألحان رائعة، وعالم فني خاص وأسس أول مسرح عربي راقص في العالم.

نشأته:

عبد الحليم كركلا من مواليد عام 1938 مبدع ولد في مدينة بعلبك، عُرف منذ نشأته بمواهبه العديدة، حتى أنه كان رياضياً بإمتياز، إلا أن تعلقه بوالده الشاعر عباس كركلا إستحوذ على فكره، وكما يقال فالإنسان إبن بيئته، فكيف إذا كان إبن شاعر، فأخذ الإبداع والموهبة من والده، وصقلهما بالعلم والمعرفة.

دراسته وتميّزه بالرياضة:

تميز عبد الحليم كركلا بإمتلاكه لياقة بدنية عالية، وقد حاز بطولة لبنان بالزانة (القفز العالي بالعصا) والقفز العريض وسباق الـ 100 متر، وغيرها من الألعاب الرياضية بإشراف مدربه اليوناني إيفان بسياكس. في مدينة كميل شمعون الرياضية وملاعب الجامعات اللبنانية كانت له صولات وجولات مَثَّل من خلالها لبنان في عدة دورات عربية وعالمية، وفي ألعاب القوى في دورة البحر الأبيض المتوسط وغيرها.

وبعد أن حقق المايسترو كركلا بطولاته الرياضية، تلمس أندريه بونيه، المستشار الفرنسي، طاقة كركلا الإبداعية، فأرسله عبر "الأوسو" إلى الـInstitut National Du Sport، في جوان فيل- فرنسا، ليتدرب على الـ" Perche en fibre de verre"، وبعد أن أنهى دورته الصيفية، أرسل إلى "Cellier de Clairveaux" في ديجون، حيث درس فنون الفلكلور الأوروبي، ، ليعود بعدها إلى لبنان عام 1963 مدرباً في مهرجانات بعلبك الدولية. إلا أن كركلا أراد إكمال دروسه في فن الباليه الحديث، فوقع خياره على مدرسة "London School of Contemporary Dance" في لندن، فالتحق بها، وتخرج منها حائزاً على ماجستير في فن الكوريغرافيا.

صعوبات الإنطلاقة والإنشاء:

بعد أن أغنت مسارح لندن ثقافته، عاد عبد الحليم كركلا إلى لبنان وأسس أول مسرح عربي راقص عام 1968.

إلا أنه لم يجارِ العصر الذي بدأ فيه، بل على العكس، إختار طريقاً جديداً، وكانت الصعوبات هي أساس هذا الأمر، فعدم وجود مدارس متخصصة وقلة الراقصين المحترفين في لبنان، بالإضافة إلى نظرة المجتمع السلبية السائدة إلى عالم الرقص في ذلك الوقت، كلها زادت من صعوبة الأمر، إلا أن كركلا عمل على تأسيس فرقة من الراقصين، لم يتجاوز عددهم الـ 15 راقصاً.

وعمل لأكثر من عام، على تدريبهم وترسيخ فكرة "الرقص المسرحي" بحذافيرها، ليكلل عمله بالنجاح بعد أن قدَّم أول عمل له على شاشة تلفزيون لبنان بعنوان "الله مع الشباب"، وتنتشر بعده أصداء الفرقة بشكل كبير.

تطوّر فرقة كركلا

بين عامي 1972 و2002، تطورت مؤسسة كركلا الثقافية كثيراً، لتصبح مسرحاً عالمياً راقصاً يضم حوالي الـ 50 راقصاً وراقصة، وأصبح لها مسرحها الخاص "مسرح كركلا في سنتر إيفوار" لتكون بذلك أول فرقة عربية تملك مسرحاً إسوة بالفرق العالمية

كما أسست أليسار كركلا، مدرسة كركلا لتعليم فنون الرقص، والتي اليوم تضم أكثر من 1000 طالب وطالبة من مختلف الأعمار، وذلك لإكتشاف وتنمية المواهب الشابة وتحقيق إستمرارية الفن الراقص في لبنان.

وبذلك حوّلت المؤسسة هذا المسرح إلى واحة فنية تحتوي على كل التقنيات الفنية الحديثة، منها الصوت والإضاءة، والغرف الخاصة بالأزياء، والإستراحة الشرقية العربية.

"كركلا" من لبنان إلى العالمية

بعد الأصداء الإيجابية، إتصل عبد الحليم كركلا بالملحق الثقافي الفرنسي، ليتفق معه على إستئجار طابق كامل في “Stade de Chayla”، ليكون مركزاً أساسياً لفرقته، وقد حمل عنوان "إلى العالم الآخر"، ليتلقى بعده دعوة لمعرض أوساكا الدولي في اليابان ليمثل الشرق العربي.

تفرغ كركلا لتحضير برنامج خاص لليابان "لبنان عبر التاريخ"، وعلم بعدها الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقل برغبة الدولة اليابانية في تعريف تاريخي عن لبنان، ليكون بمثابة إفتتاحية للعمل الأكبر المنشود، وألقى سعيد عقل المقدمة بصوته، وتمت ترجمتها إلى اللغتين الإنجليزية واليابانية.

قدمت الفرقة العمل في افتتاح معرض أوساكا الدولي أمام الأمير "ميكازا"، شقيق الإمبراطور "هيروهيتو".

مسرح كركلا من الباليه إلى الميوزيكال... بالتعاون مع كبار الشعراء

بعد أن عاد عبد الحليم كركلا من لندن عمل على تدريب أعضاء فرقته على أسلوب الرقص الذي أرسته مارتا غراهام، أي تقنية الرقص المعاصر، إلا أنه أيقن أن لا بد من العودة إلى التراث والهوية العربية، بعاداتها وتقاليدها، بأدبها الشعبي، وموسيقاها وأزيائها، والنهل منها لتكون المواد الخام التي يرتكز عليها ويمسرحها ويقدمها بصورة فنية معاصرة، كهوية عربية حضارية حول العالم، فخلق ما يُعرف اليوم بـ"أسلوب مسرح كركلا الراقص"، الذي يعتمد على تلاقي وتزاوج هوية وتراث الشرق مع تقنية الغرب، أي تلاقي الباليه الكلاسيكي مع الرقص المعاصر، مع الفولكلور العربي الغني بمضمونه الفني والإنساني.

كانت أولى أعماله على شكل باليه لا وجود للحوار فيها، بدءاً من "اليوم، بكرا، مبارح" عام 1972، "غرائب العجائب وعجائب الغرائب" عام 1975، "الخيام السود" عام 1978، "طلقة النور" عام 1980، "ترويض الشرسة" عام 1982 لـ وليام شكسبير، "أصداء" عام 1985، "حلم ليلة شرق" عام 1990، والمستوحاة من "حلم ليلة صيف "لـ شكسبير ،"أليسار ملكة قرطاج" عام 1995، وصولاً إلى "الأندلس المجد الضائع" عام 1997.

أما الميوزيكال الأولى لمسرح كركلا، فكانت مسرحية "بليلة قمر" عام 1999، التي تقوم على التعبير عن المضمون من خلال لغة الجسد والموسيقى والحوار والأغنيات.

وقد إتّبع عبد الحليم كركلا أسلوب المسرح الغنائي الراقص "الميوزيكال"، في كل أعماله التي تلت مسرحية "بليلة قمر"، هذا الأسلوب الذي يرتكز على تلاقي النص الكتابي والنص الموسيقي والنص الكوريغرافي.

تجدر الإشارة إلى أن الأساس في مسرح كركلا، هو اللوحات الراقصة التي تعبر عن المضمون والدراما المسرحية من خلال تعابير لغة جسد الراقصين، وبالتالي فإن أعمال مسرحه لا تتمحور حول مغنٍ واحد أو ممثل واحد، بل حول اللوحة ككل، وحسب شخصيات المسرحية.

أما بالنسبة للسيناريو في جميع مسرحيات مسرح كركلا فهو للمايسترو كركلا، أما في كتابة الحوار والأغنيات فكان حول المايسترو نخبة من الشعراء الذين صاغوا رؤيته بأجمل الحوارات والشعر، نذكر منهم سعيد عقل، طلال حيدر، أنسي الحاج، جورج جرداق، كريم معتوق، رعد شلال وهنري زغيب.

عبد الحليم كركلا ونصيبه من التلحين

تعاون كركلا خلال مسيرته مع العديد من الملحنين، إلا أنه ترك لنفسه مساحة لاختيار الموسيقى أيضاً التي يراها مناسبة لكل لوحة فنية، وبالعودة إلى الملحنين الذين تعاون معهم، نذكر مانوس هاجيداكس، زكي ناصيف، مارسيل خليفة، وليد غلمية، توفيق الباشا، إيلي شويري، شربل روحانا، هوشنغ كامكار، والمستشار الموسيقي محمد رضا عليغولي.

مع الإشارة إلى أن المايسترو كركلا لديه اليوم أرشيف هائل من الأبحاث التراثية، الذي يحتوي على كنز من الأبحاث التي أجراها خلال حياته، عن التراث والهوية العربية، لكشف النقاب عن العادات والتقاليد العربية ومضمون التراث بكل ما يحمله من أبعاد فنية وإنسانية وإجتماعية من موسيقى وألحان وأزياء وأدب شعبي وتاريخي ...

من هنا، وعند تحضير عبد الحليم كركلا لأي عمل جديد، يعود إلى هذا الكنز من الأبعاد الفنية الرائدة التي تجسد الهوية العربية، ليستوحي منه المواد التي سيمسرحها، والتي تخدم مضمون القصة ومنها الموسيقى التي يختارها لتتلاقى مع كل مشهدية يعمل عليها، فيختار اللحن ويعمل على توزيعه موسيقياً من جديد.

يتبع في جزء ثانٍ.