من بيروت وقلبها المدمى بالأزمات، القلب الذي طُعن مليون مرة على مر الأزمنة والعصور، ظل ينبض رافضاً لغة الموت، فهو لا يهاب أحداً، ولو تمت قسطرته مرات عدة، وتمييله مراراً وتكراراً.

لقد بقيت بيروت وهم رحلوا، لتبقى زينة الأعياد ونبض الثورات والحريات، فلمثلها لا تليق العتمات، بل وجدت منذ الأزل لتبقى حية سرمدية بمحبيها.

وإن غيّبتها عن الحياة نيترات وتفجيرات ودماء، تركت أثراً لن يغفره التاريخ ولا الأجيال القادمة، عادت مختالة مغرورة بتاريخ عريق لا تشوهه غياهب الدخلاء، عادت هذه المرة بأعياد تليق باسمها، فكانت "أعياد بيروت" التي نفضت الغبار عن مسرحها، وأشعلت إنارتها، وأعادت المجد لمدرجها بإرادة وحكمة وإصرار القيمين عليها.
"أعياد بيروت" سخية في تكريم ضيوفها، لقد اختارت عاشقة بيروت التي أبت رغم كل الأزمات، إلا أن ترتشف قهوتها الصباحية من على شرفتها البيروتية، تدندن بإحساسها "بحبك يا لبنان" و"لبنان الكرامة والشعب العنيد".


إنها ملهمة الأحاسيس، محفزتها بجرعة عالية من الحب، تتطاير معها شظايا الأدرينالين، تحلق معها، تتناسى من حولك وما لك وما عليك. إنها إليسا وجه السعد لبيروت وأعيادها، أطلت مذهبة بفستان أبرق لمعاناً، وبوجه شغله الشغف، شغف العودة إلى مسرح "أعياد بيروت" بين محبيها.
بنفحات ياسمينية رحبانية اعتلت المسرح لتقدم رائعتها "زهرة من الياسمين"، تترجم هذا العشق والشغف لبيروت، وتكملها مع السيدة فيروز "بتتلج الدني" و"بيقولوا زغيّر بلدي".
وبكلمات مقتضبة، رحبت بجمهورها الغفير الذي بات أشبه بمدى بحري، رحبت بحضوره، وتغنت ببيروتها كما تحب، مصرة على توصيفها بـ عاصمة الحب والجمال والحياة والثقافة.
أكملت إليسا وصلتها، قدمت ما لذ وطاب من أغنياتها المعتقة بإحساس لا يقهر، والمطعمة بحداثة عملها الأخير، وسط حالة من التفاعل، تحولت إلى بركان أطلق حممه الصاخبة، ومن حضر الحفل شهد ورأى في أم العين، جمهورها الذي لم يهدأ طيلة ساعتين من الوقت.
إليسا التي تعشق المسرح كما الاستوديو، تنخرط في حالة من الإدمان التفاعلي يشعرها وكأنها بين أفئدة عائلتها، تتصرف بعفوية وكفراشة مزهوة تختال ترقص تركض تغني تصرخ... إنها ومضات الفرح الحقيقية، التي تظهر الفنان في أبهى لحظاته الحقيقية الصادقة والتفاعلية.


ولأنها مؤمنة بالتجرد من كل ما يعيق تحركها أمام جمهورها، استأذنته باحترام لتخلع حذاءها الذي أنهك قوامها، فقررت وعلى غرار حبيبة الشاعر نزار قباني، أن تغني وترقص حافية القدمين، متحررة رشيقة نشطة منطلقة لا تحد فرحتها بجمهورها حدود ... لقد تناست في تلك اللحظة كلاسيكيات المسرح، وأطلقت العنان لعفويتها لحريتها لحقيقتها.
لن ننحدر في هذا المقال إلى مستوى التعليقات البائسة المتيمة بالأمراض النفسية الخبيثة، والتي تحاول عبثاً إفراغ أمراضها عبر مواقع التواصل، والتي حاولت التشويش بمناظرات وفلسفات عبثية. لن نعيرها اهتماماً ونعكر صفو هذه الأعياد، انطلاقاً من احترامنا لحرية الفنان بالتصرف على المسرح كما يشاء، على غرار الكثير من نجمات الغناء في العالم، اللواتي غنينَ حافيات القدمين، كأديل وجوان بايز وكارلا بروني وغيرهن...
في الختام، أسدلت إليسا الستار على هذا الفيض من الحب، استودعت جمهورها في ملتقى جديد، فهي تدرك أنه في الآخر وقت موقت للفراق، يتجدد في محطات منتظرة، تعود فيها لترفع نخب بيروت ومحبيها على امتداد العالم، وأعياد بيروت وصمود بيروت على أمل اللقاء المستمر.