شموخها من شموخ أرز لبنان، فهي ابنة هذا الوطن، الذي رفضت أن تهجره، وكيف تتركه وهي التي عشقت ترابه، وكتبت من صميم قلبها، كلمات مليئة بالحب والحنين والذكريات، معبرة دائماً عن ولائها الأول والأخير لبلدها لبنان.
وكعادتها وككل عام، جمعتنا من حولها، لنكون حاضرين إلى جانبها في حفل إطلاق كتاب جديد يحمل توقيعها، وهذه المرة "أمواج صاخبة"، فالتقينا في "بيت الطبيب" في التحويطة، مع نخبة من أهل الفكر والإعلام، وعشاق الكلمة التي تلامس القلب.
إنها سيدة الكلمة، الأديبة والكاتبة ماري تريز فرّا، التي غمست قلمها في قلبها، وكتبت متأسفة على ما وصل إليه لبنان من انهيار، مستنجدة بيسوع المسيح، طالبة شفاعة العذراء مريم والقديسين، مخاطبة والدتها وبناتها وأحفادها، مسترجعة ذكرياتها الحلوة والمرة، فجاءت الأمواج صاخبة.
كل عام يتجدد لقاؤنا معكِ هنا، وتهدينا كلماتكِ الراقية في الأعياد.
لأنكم رمز للوطن وذخيرته، الإعلام هو المملكة الرابعة التي تصلح الوطن، ويمكنها أيضاً أن تخرب الوطن في حال كانت مباعة للخارج.
في أي خانة تضعين كتابكِ الجديد "أمواج صاخبة"؟
هذا الكتاب بين الشعر وبين ما في القلب، وأطلقته من جرح القلب، وهناك جرح الوطن ووجعه، لبنان ينزف.
ما هو أكثر أمر يجعلكِ تزعلين؟
أزعل على الحالة التي وصلنا إليها، وعلى المدارس التي انهارت، والفنادق التي أقفلت، والمصارف التي أفلست، والازدهار الذي أصبح في خبر كان.
كيف يستطيع قلمكِ أن يستمر في الكتابة، في ظل اليأس الذي يسيطر على معظم المواطنين؟
لبنان كان له عهد ذهبي في الماضي، والآن أصبحنا في عصر الإنحطاط، في كل المجالات، في الكلمة والعطاء والازدهار، كل شيء جميل ضاع في هذا العهد. أكتب بفضل الروح القدس، هو الذي يعمل ويعطي، يقولون لي إنه في عمري ينضب العطاء، ولكن الروح القدس يعمل بي.
بإصراركِ على الكتابة تحاولين أن تنهضي بالوطن؟
لأنه يجب على الأديب أن يكتب دائماً، لربما يعلّم بنقطة تضيء في الحجر، أنا مثل النقطة التي تنقش في الصخر.
الغلاف الأخير للكتاب رائع، فهو يحمل رسماً لصورة لكِ خلال توقيعكِ كتابكِ "بيروت يا عشقي".
هذه الصورة رسمها الرسام موسى طراد، إبن الشاعر ميشال طراد، رأى الصورة على الفيسبوك، وأحبها كثيراً ورسمها.
أنتِ من يجب لبنان أن يكرمها، هل يعقل أن تقولي في كتابكِ: "أنا غريبة في أرضي"؟
كل شخص لديه قلم يكتب، يصبح لديه الكثير من الأشخاص الذين يعاكسونه، لأنه لا يسير معهم في نفس التيار.
عبرتِ عن خوفكِ من المستقبل، هل هذا يعني أنكِ تعيشين في الماضي أكثر؟
حين تعيش في قفص ذهبي، يتغير هذا القفص مع الوقت ويصدأ، وتشعر أنك تريد أن تعود إليه، وتتمسك به مثلما يتمسك الشخص الذي يغرق بقشة في المياه، ويتخبط بين الأمواج، والكتابة هي تخبط بين الأمواج، أحياناً ترفعك إلى الأعلى، وأحياناً أخرى تنزلك إلى الأسفل، والموجة تكون بحسب حياتك وظروفك وعاطفتك.
ماري تريز فرّا الأم التي لديها أربع بنات مهاجرات نادين، سابين، باسكال وشانتال، وجدة الأحفاد الذين يعيشون خارج الوطن، لماذا تمسكتِ بالبقاء في لبنان، وحيدة مع القلم والورق؟
في هذا العمر أين أستطيع أن أتأقلم؟ سافرت إلى الأرجنتين، وتجولت فيها، وحزنت على وطني لبنان، لأني رأيت هناك الطبيعة الجميلة، والحرية، واحترام الإنسان والشيخوخة، وهذه الأمور أصبحنا نفتقدها في لبنان. وطني يجري في دمي، وأريد أن أموت فيه، وأن أجبل بتراب أرضي، أصبحت تقريباً في آخر محطة من قطار عمري، ولا أريد أن تكون محطتي هذه في بلد غريب، أريدها أن تكون في بلدي.
هل أحفادكِ يعرفون لبنان؟
هم متعلقون به كثيراً، لدي حفيد عمره 17 عاماً سافر إلى بوسطن مع ابنتي لمدة عام، وحين بدأت أحداث فلسطين قال لوالده: "إذا لا تسفرني إلى لبنان، سأذهب إليه سيراً على الأقدام". زرعوا لبنان في قلوب أحفادي، وكذلك زرعوا فيهم الإيمان، لأنه يعطي الإنسان الاستقامة والشفافية. معظم أحفادي ولدوا في لبنان، وهناك اثنان منهم ولدا في الخارج، ولكنهما متعلقان بلبنان كثيراً، ونالا سر المعمودية هنا.
هل لبنان الرسمي عرف قيمتكِ؟
المسؤولون خيبوا آمالنا، صدمونا، أوصلونا إلى اليأس، جعلونا ننسى العهد الذهبي، ونعيش في جهنم، هم لا يشبعون، لا زالوا مستمرين.
تخاطبين والدتكِ في قصيدة، ماذا تقولين عنها؟
ليتها كانت على قد الحياة، لكنت أضأت لها يدَي شموعاً، الأم هي الوطن، هي التي تحضن، هي أساس العائلة والبناء، وإذا كان البناء من دون أساس ينهار.
أنتِ ابنة مدينة زحلة، ولفتتني قصديتكِ عن بلدية زحلة، عدا عن قصيدتكِ عن مكتبة زحلة.
مبنى البلدية كان سجناً، وتم تحويله إلى أجمل بلدية في لبنان، كنا نمر بالقرب منها حين كناً صغاراً في السن، ونسمع أصوات المساجين، ولكن الآن حين تحين تدخل إلى مبنى البلدية، ترى القناطر شامخة، والسقف الزجاجي، وتلمس فيها العظمة، وتفتخر بهذه البلدية.
تقولين في قصيدة "سبحان الدني كيف بتغير"، هل الدنيا هي التي تغير الشخص، أم أن الشخص هو الذي يكون أصلاً قابلاً للتغيير؟
هناك أشخاص معدنهم من ذهب لا يتغير، وهناك أشخاص يكون معدنهم قابلاً للتغير، الوقت يغيرهم، وأنا طوال عمري كنت صادقة مع الجميع، ولكن إذا انجرحت، أطوي الصفحة، ولا أعود إليها أبداً.
ليست كل الأمواج بشعة، هناك أمواج حلوة أيضاً.
هناك أمواج حلوة في الحياة، حين يكون إيمانك كبيراً يكون الموج جميلاً.
الحبيب حصته صغيرة جداً في كتابكِ الجديد، لماذا؟
لأنه في معمعة الأيام الصعبة، لا يعود لديك مكان للحبيب، مع أن الحبيب هو الحياة، ومن دونه لا يمكنك أن تكمل العمر، فهو الندى للوردة عند الصباح.
مع اقتراب عيد الميلاد المجيد، نستذكر دعوة يسوع المسيح لمسامحة بعضنا البعض.
نعم نسامح، ولكن المسيح قلب الطاولة في الهيكل، عندما رأى المراوغين يبعثرون ملك أبيه، أطلب من يسوع أن يرسل لنا أحداً يقلب الطاولة على كل الذين أوصلونا إلى هذه الحالة في لبنان، ولا بد أن يستجيب.
في الختام، نتمنى لكِ ميلاداً مجيداً، وعاماً جديداً سعيداً يحمل لكِ كل ما تتمنينه.
وأنا أعايدكم أيضاً، ميلاد مجيد، وعام سعيد. أشكر حضورك جوزيف، وأشكر السيدة هلا المر وموقع الفن، أنتم فخر لبنان، ومرآة تظهر وجه وطننا الجميل.
إشارة إلى أن كتاب "أمواج صاخبة" متوفر في جميع فروع مكتبة أنطوان.
يذكر أنه في رصيد الأديبة والكاتبة ماري تريز فرّا "لبنان حِكم وعِبر" الصادر عام 2014، "همسات عابرة سبيل" 2015، "محطات من قطار الزمن" 2017، "تغريدات الصبا" 2019 عن زحلة وأحيائها وكنائسها، "منجل الحصاد" 2020 عن فيروس كورونا، و"بيروت يا عشقي" 2021 عن إنفجار مرفأ بيروت، "زمن بلا أيام" 2022 و"نحت على النجوم" 2023.