هو صاحب الدور الرائد في ترسيخ الفن اللبناني، وفي نشر الأغنية اللبنانية في أكثر من بلد، وهو مدرسة في الغناء والتلحين، ليس في لبنان فقط، بل في العالم العربي أيضاً، اقترن اسمه بلبنان، وبجباله التي لم يُقارِعْها سوى صوته الذي صوّر شموخها وعنفوانها.
هو الصوت الذي يعتبر بمثابة غذاء للروح وصلاة للقلب، والذي قال فيه محمد عبد الوهاب عندما سمعه يغني أوائل الخمسينيات أغنية «ولَو» المأخوذة من أحد أفلامه السينمائية :"من غير المعقول أن يملك أحد هكذا صوت"، وقد شكّلت هذه الأغنية علامة فارقة في مشوار الصافي الفني، فلُقِّب بـ"صاحب الحنجرة الذهبية". في وصف صوته نستعين بكلمات الأب يوسف مونّس الذي قال فيه :"تسمع وديع الصافي فتصفو فيك الروح، ويفوح حولك بخور الأرز والسنديان والصنوبر والشربين والثلج والربيع ومواسم الحصاد والغلال، وهدير أصوات الرجال الأبطال ورقة صلوات الأمهات والنساك".
كيف لا نستعين بهذا الوصف الرائع للصافي، وهو الذي قال له موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب :"أنت أبو كلثوم العرب"، وأضاف :"ربنا جمع كل أصواتنا بصوت وديع الصافي"، وحين سمع صوته العندليب الراحل عبد الحليم قال :"لازم نروح نبيع ترمس"، وقيل عنه في مصر إنّه مبتكر "المدرسة الصافية" في الأغنية الشرقية الشعبية.
في رصيده أكثر من 5000 أغنية، ومسرحيات غنائية قدمها على أهم المسارح في لبنان والعالم، هو عملاق لن يتكرر.
نشأته وبدايته
وُلد وديع الصافي في بلدة نيحا - قضاء الشوف في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1921. إسمه الحقيقي وديع فرنسيس، وهو الإبن الثاني للعائلة التي تضم ثمانية أولاد. كان شغفه بالموسيقى كبيراً، فقد أحب الغناء من طفولته، وتعلم العزف على العود، على يد خاله الدركي نمر شديد العجيل.
عام 1930 نزحت العائلة إلى بيروت، وإلتحق الصافي بمدرسة دير المخلص، وأصبح أول منشد في جوقة المدرسة، وتابع دراسة العزف على العود مع الأستاذ ألكسي اللاذقاني. بعد ثلاث سنوات، توقف الصافي عن تلقي علومه في المدرسة، لأنه إضطر إلى أن يعمل ليساعد والده في إعالة العائلة، فعمل في صالون حلاقة، ومحل لبيع الأحذية، ومحل آخر لبيع الألبسة، وأيضاً في معمل للزجاج والقرميد.
حصل في الثلاثينيات من القرن الماضي على الإسم الذي يعتبر إسماً على مسمى، وهو وديع "الصافي"، فصفاء صوته جعل الموسيقار محي الدين سلام، عازف العود الشهير، ووالد المطربة نجاح سلام، يسمّيه بهذا الإسم، إذ قال له الموسيقار سلام :"أنت يا وديع تملك صوتاً رائعاً، وصافياً، وحنجرة ذهبية.. لا مثيل لها، لذلك أطلقت عليك الصافي".
في طفولة الصافي وصفه جده، وقال له :"صوتك ما في متله بالأرض، ورح يخليك مشهور".
إنطلاقته
يُعتَبر وديع الصافي إبن إذاعة الشرق الأدنى، التي تتلمذ فيها على يد ميشال خياط وسليم الحلو، فهي كانت بمثابة معهد موسيقي، وكان لخياط والحلو الأثر الكبير في تكوين شخصية الصافي الفنِّية. إنطلق وديع الصافي فنياً سنة 1938 عندما فاز بالمرتبة الأولى لحناً وغناءً وعزفاً من بين 40 متبارياً في مباراة لـ الإذاعة اللبنانية الرسمية، وكان ذلك بأغنية "يا مرسل النغم الحنون" للشاعر الأب نعمة الله حبيقة، وكانت اللجنة الفاحصة في ذلك الوقت تتألف من اساتذة اللحن والغناء سليم الحلو، ميشال خياط، محيي الدين سلام وغيرهم الذين أجمعوا على اختيار إسم "وديع الصافي" كإسم فني له.
لعب الشاعر أسعد السبعلي دوراً مهماً في أغاني الصافي، فقد كتب له حوالى الـ85 أغنية، كانت البداية مع "طل الصباح وتكتك العصفور" عام 1940، تلتها أغنيات كثيرة، نذكر منها "يا بيتنا الخلف الضباب"، "ولو"، "غابت الشمس" و"ليش يا إبني". كان أول لقاء لوديع الصافي مع محمد عبد الوهاب عام 1944 حين سافر إلى مصر. وفي عام 1947، سافر مع فرقة فنية إلى البرازيل، وبقي فيها 3 سنوات. بعد عودته من البرازيل، أطلق أغنية "عاللّوما"، التي جعلت إسمه يتداول أكثر، وفي أواخر الخمسينيات، عمل مع العديد من الموسيقيين، بهدف نهضة الأغنية اللبنانية إنطلاقاً من أصولها الفلكلورية، وذلك من خلال مهرجانات بعلبك التي جمعته وجمعت الأخوين رحباني، فيروز، توفيق الباشا، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، زكي ناصيف، وليد غلمية وسامي الصيداوي وغيرهم.
حمل وديع الصافي بصوته راية الدفاع عن الفن والحضارة وثقافة اللبنانيين في العديد من البلدان، حين غادر لبنان مع بداية الحرب اللبنانية إعتراضاً عليها، إلى مصر عام 1976، ومن ثم إلى بريطانيا، ليستقر عام 1978 في باريس، قبل أن يعود إلى وطنه لبنان الذي رافقه في وجدانه طوال فترات تنقله بين البلدان، وحمل الصافي ثلاث جنسيات، عدا عن جنسيته اللبنانية، وهي المصرية والفرنسية والبرازيلية.
مزاياه الفريدة
غنّى وديع الصافي للعديد مِن الشعراء والملحنين، منهم الأخوين رحباني، توفيق الباشا، الياس الرحباني، زكي ناصيف، فيلمون وهبي، عفيف رضوان، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش ورياض البندك، أسعد السبعلي ورياض النجمة، لكنه كان يفضّل أن يلحّن أغانيه بنفسه، لأنّه كان الأدرى بصوته، كما كان يقول، ولأنّه كان يُدخل المواويل في أغانيه، حتّى أصبح مدرسة يُقتدى بها.
في مشواره الفني الذي دام حوالى 75 عاماً، غنى الصافي في العديد من المهرجانات، من بينها بيت الدين وبعلبك وجبيل، وتلقى الكثير من التكريمات والأوسمة من العديد من البلدان العربية والغربية.
شارك أيضاً في العديد من الأفلام السينمائية، منها "غزل البنات"، "موّال"، "إنت عمري"، "نار الشوق" و"عرس التحدي" و"ليالي الشرق"، كما شارك في مسلسل "كانت أيام" ومسلسل "كيف تخسر مليون جنيه"، ومن المسرحيات التي شارك فيها نذكر "موسم العز"، "أرضنا إلى الأبد"، "المحاكمة"، "سهرة حب"، "قصيدة حب"، "مدينة الفرح"، "أيام الصيف" و"طواحين الليل".
حياته الخاصة
تزوج وديع الصافي من السيدة ملفينا فرنسيس، عام 1952، وهي إحدى قريباته، وأنجبا دنيا ومارلين وفادي وأنطوان وجورج وميلاد، وتوفيت زوجة الصافي في 24 أيلول من عام 2020 عن عمر ناهز الـ 87 عاماً، وذلك بعد صراع مع المرض.
أنطوان وديع الصافي
هو أحد أبناء وديع الصافي، صوته جميل يشبه صوت والده، ودائماً ما يغني من أعمال وديع الصافي في المناسبات والإطلالات التلفزيونية، ففي العام 2021، إحتفل مهرجان الموسيقى العربية في مصر بمئوية وديع الصافي، وشارك أنطوان وديع الصافي في حفل التكريم هذا، وغنى خلال هذه المناسبة أغنيات عديدة لوالده، نذكر منها "لبنان يا قطعة سما"، "بالساحة تلاقينا"، "الليل يا ليلى" و"دار يا دار".
إشارة إلى أنه في رصيد أنطوان وديع الصافي الغنائي موال "السنديان".
جورج وديع الصافي
هو إبن الفنان وديع الصافي، يتميّز بصوت قريب جداً من صوت والده، وقد حرص على إعادة غناء عدد من أغنياته تكريماً منه له ولإرثه الفني.
وبعد مرور سنوات على وفاة وديع الصافي، أصدر جورج أغنية "لبنان ما يهمك"، تعاون فيها مع إبنيه شربل وجاد اللذين أديا أجزاء من الأغنية، ومع إبنته غنوة وخطيبها اللذين أشرفا على إخراج الفيديو كليب،
يعتبر جورج الفن رسالة سامية، راسماً لنفسه ولإبنيه جاد وشربل خطاً لن يحيد عن تعاليم مدرسة والده وديع الصافي.
سهام الصافي وتأثير وديع الصافي عليها
الفنانة سهام الصافي التي كانت متزوجة من المخرج فادي الصافي، إبن وديع الصافي، إسمها الأصلي سهام عازوري، غنت مع وديع الصافي في لاس فيغاس وعلى أكبر مسارح في العالم، وفي بعلبك في لبنان، وبدار الأوبرا في القاهرة. سهام الصافي قالت في لقاء لها مع رئيسة التحرير هلا المر، إن وديع الصافي أورثها إسمه الكبير، وقال لها إنها مؤتمنة على مكتبته الموسيقية، إذ يمكنها أن تسجّل أغنياته، وتغنّي أعماله في الحفلات.
كما كشفت سهام الصافي ما قاله لها وديع الصافي وهو على فراش الموت :"أوصلتك لأعلى مرحلة، ولديكِ كل المؤهلات لتكوني في المرتبة الأولى، وأنتِ عليكِ أن تحافظي على إسمي، أكملي في مسيرتك لكن حافظي على إسمي".
في رصيد سهام الصافي العديد من الأغنيات، وكذلك ألبوم "مظلومين" من ألحان وديع الصافي في 4 أغنيات، وأربع أغنيات من ألحانها.
علاقته بالله
لم ينسَ الصافي يوماً علاقته بالله، فهو رنم في الكثير من المناسبات الدينية، وأصدر العديد من الترانيم والإبتهالات الخاصة، منها "أبانا" و"يا مريم يا أم الله" و"يا نعمة الله علينا" التي أصدرها بعد إعلان قداسة الحرديني.
شقيقته هناء الصافي "مطربة المغتربين"
شقيقة وديع الصافي، ناديا بشارة فرنسيس، هي الفنانة المعروفة بـ هناء الصافي، إشتهرت بالعديد من الأغاني، نذكر منها "يا بَيتي يا بوَيتاتي"، "حلوين عيونك يا شب"، "طَير الطاير من عنّا"، "شَيخ الشباب" و"بالطيارة والبابور".
لقّبت هناء الصافي بـ"مطربة المغتربين"، وهي من مواليد عام 1936، وتوفيت في عام 2022 وأقيمت مراسم الجنازة والعزاء يوم الأحد 22 أيار، في كنيسة مار الياس الحي في ميروبا.
أهم أغنيات وديع الصافي
أغنيات وديع الصافي يصعب حصرها في سطور، إلا أننا نذكر منها "لبنان يا قطعة سما"، "جايين يا أرز الجبل"، "سيجنا لبنان"، "لبنان عرس الدني"، "صرخة بطل"، "خضرا يا بلادي خضرا"، "زرعنا تلالك يا بلادي"، "لوين يا مروان"، "الله معك يا بيت بالجنوب"، "يا ابني"، "طلّوا حبابنا"، "رح حلفك بالغصن يا عصفور"، "عالبال يا عصفورة النهرين"، "عندك بحرية" و"على الله تعود".
جمعية "نسروتو-أخوية السجون" في لبنان، برئاسة الأب مروان غانم، أقامت، في شهر تموز الماضي، حفلة موسيقية أحيتها جوقة من نزلاء سجن روميه، وإختارت تكريم العملاق الكبير الدكتور وديع الصافي على طريقتها بمناسبة مرور المئوية، وذلك بإختيار بعض أغنياته، بإشراف العميد المتقاعد إيليا فرنسيس، والتنسيق معه، وهو قائد موسيقى قوى الأمن الداخلي الأسبق، وشقيق وديع الصافي.
تكريمات وأوسمة
كُرّم وديع الصافي من قبل العديد من البلدان والجمعيات والمؤسسات، ونال أكثر من وسام إستحقاق، من بينها أوسمة لبنانية في عهد رؤساء الجمهورية اللبنانية كميل شمعون، فؤاد شهاب وسليمان فرنجية والياس الهراوي، ومنحه الرئيس إميل لحود وسام الأرز برتبة فارس، كما منحه الرئيس ميشال سليمان وسام الإستحقاق اللبناني من الدرجة الأولى، الذي وُضِع على نعش الصافي خلال مراسم جنازته. كرّمه أيضاً معهد العالم العربي في باريس عام 1989، أما في عام 1991، فقد منحته جامعة الروح القدس في الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقى.
أقيم في شهر كانون الثاني من العام 2019، حفل تكريمي لـ وديع الصافي، برعاية النائب والوزير الأسترالي-اللبناني جهاد ديب، أما الجهة المكرمة فهي البرلمان الأسترالي وبالتعاون مع المكتبة الوطنية، التي تم فيها حفل التكريم في منطقة الصنائع، وتسلم شهادة التقدير شقيق الراحل العميد إيليا فرنسيس والفنان جورج وديع الصافي، الذي غنى بعضاً من أغنيات والده وعزف على العود، وعاد وشاركه الغناء شقيقه الفنان أنطوان الصافي.
وقد افتتح معهد الموسقى بريستيج صالة فيه باسمه وحضر هو الافتتاح ودشّن الصالة.
وفاته
يوم 11 تشرين الأول 2013، لم يكن يوماً عادياً، بل كان يوماً حزيناً، وذلك حين رحل وديع الصافي عن عمر 92 عاماً، في مستشفى "Bellevue" في المنصورية في جيل لبنان، بعد أن كان نقل إلى المستشفى إثر تعرضه لوعكة صحية، تاركاً بلده لبنان الذي غناه "قطعة سما عالأرض تاني ما إلا"، ولم يدرك الصافي أن هذه الأرض خسرت الكثير من جمالها وسحرها برحيله عنها. دُفن الصافي في مسقط رأسه في بلدة نيحا في الشوف بناءً على وصيته، يوم 14 تشرين الأول/أكتوبر من عام 2013، لتغفو عيناه إلى الأبد في تراب البلدة التي تغزل بها طوال حياته، وكان يزورها بشكل دائم. المؤرخ الموسيقي فيكتور سحاب أصدر كتاب شبه موسوعة عن حياة وديع الصافي وتقنية أدائه واغانيه ويتضمن الكتاب تحليل موسيقي. واصبح هذا الكتاب مرجع لكل كليات الموسيقى في لبنان والشرق.
قيل عنه الكثير عبر أثير الإعلام، وكتبت عنه الصحافة أجمل الكلمات، لأن صوتُه بحجم وطن، وكل الحروف والسطور لا تعطي وديع الصافي حقه.