طارد جمهور ومحبو الشاعر الفلسطيني محمود درويش شخصية "ريتا" التي إستدعاها في قصائده، وبدت ملامحها في أحاديثه وهواجسه.
تقصوا، بحثوا، قرأوا ما بين السطور، محاولين معرفة هوية السيدة التي أثرت بشاعر المقاومة، واحتلته، من تكون؟ هل هي حقيقة أم أنها اسم مستعار، بحسب قوله: "إنها إنسانة. ليست محددة"؟
أطلت "ريتا" على الجمهور للمرة الأولى من خلال قصيدة "ريتا والبندقية"، ليتبعها عدة قصائد "ريتا أحبيني"، و"تقاسيم على الماء"، الحديقة النائمة"، "شتاء ريتا الطويل".
من هي "ريتا"؟
لم تكن المفاجأة الوحيدة أن بطلة قصائد محمود درويش شخصية حقيقة وحسب، بل أيضاً أن "ريتا"، التي أحبها وكتب فيها "ريتا والبندقية" و"شتاء ريتا الطويل" هي فتاة إسرائيلية.
وبالرغم من نفيه الأمر مراراً وتكراراً، إلا أن المخرجة إبتسام المراعنة، التي قدمت فيلم تسجيلي عن قصة حياته بعد رحيله "سجّل أنا عربي"، عرضت القصة، وأكدت أن "ريتا" حقيقية.
إسمها الحقيقي هو تمارا باهي، ولدت في مدينة "حيفا" الفلسطينية، عام 1943، وعملت أستاذة للأدب بجامعة تل أبيب.
وبحسب الفيلم التسجيلي، فإن المراعنة إلتقت ريتا في برلين، وروت لها قصة حبهما كاملة، من اللقاء الأول وهو بالسادسة عشرة من عمره، في حفل جمعهما مصادفة.
قصة الحب غير المتكافئة
عرف درويش ريتا، وبدأت قصة حبهما التي خلدت في أشعاره، وظهر في الفيلم عدة خطابات أرسلها لها باللغة العبرية، والتي حملت المعنى الحقيقي لمشاعره المختلطة، بين رغبة في لقائها والمنع بسبب الإحتلال.
وفي إحدى الرسائل كتب درويش: "أردت أن أسافر إليك في القدس، حتى أطمئن وأهدئ من روعك. توجهت بطلب إلى الحاكم العسكري بعد ظهر يوم الأربعاء، لكي أحصل على تصريح لدخول القدس، لكن طلبي رُفض. لطالما حلمت بأن أشرب معكِ الشاي في المساء، أي أن نتشارك السعادة والغبطة. صدقيني -يا عزيزتي- أن ذلك يجيش عواطفي حتى لو كنت بعيدة عني، لا لأن حبّي لك أقل من حبك لي، ولكن لأنني أحبك أكثر".
النكسة وإنتهاء قصتهما
في حزيران/ يونيو 1967، أنهت "نكسة حزيران" حكاية الحب، التي لم يكن لها أن تنجح، أيقظت في داخل كل منهما هويته الحقيقية، في حين إختارت ريتا الإنضمام إلى سلاح الطيران الإسرائيلي، اختار درويش الوقوف إلى حكاية شعبه، وكتب ليرثي حبه في قصيدته الشهيرة التي غناها الفنان اللبناني مارسيل خليفة "ريتا والبندقية"، وظل الجمهور يتساءل عنها في كل أمسية شعرية من دون أن يعرفوا شخصيتها الحقيقية، لكنهم ربما استنبطوا معنى البندقية التي فرقتهما.
بعد ريتا، دخل درويش في عدة علاقات عاطفية، وتزوج مرتين إلا أنه إنفصل عنهما، فكتب في وصف نفسه بقصيدة "سيئ الحظ": "أنا العاشق السيئ الحظ، لا أستطيع الذهاب إليك، ولا أستطيع الرجوع إليّ".
الروايات التي تناولت إشكالية "ريتا"
لم يعرف أحد على وجه اليقين كيف بدأت قصة "ريتا ودرويش"، تعددت الروايات بشأن هويتها، لكن من المؤكد أنها أصبحت في مخيلة الفلسطينيين رمزاً يعكس عبره تفاصيل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
روايات تؤكد أن الشاعر الفلسطيني وقع في حب سيدة يهودية، تعيش في تل أبيب، بين خمسينيات وستينات القرن الماضي، ولم يكتب لها النجاح، ما رواية أخرى فأشارت إلى أن درويش أحب شاعرة يهودية، تبعاً لقوله: "والشاعرة الحسناء تبكي على قدميّ في الليل، وتدلُ الشرطةَ على آثار قدميّ في الصباح"، والتي أثارت إحتمالية أن تربطه علاقة حب بالشاعرة الإسرائيلية "داليا ريبكوفتش" في الستينيات، وأنه أطلق عليها إسم "ريتا" كنوع من التضليل وهي يسارية، معروفة بمناصرتها للقضية الفلسطينية، ومناهضة للاحتلال، وداعية إلى السلام، كما أنها كتبت مقال إنتقدت فيه السلطات الإسرائيلي بسبب منعها درويش من زيارة أهله في فلسطين عام 1948.
درويش عن "ريتا" وفي حي "ريتا"
تصريحات كثيرة من درويش بشأن ريتا، ولكنها كانت دائماً متضاربة.
أعلن في إحدى المرات بإصرار أنها مجرد إسم فني، ليؤكد في مرات أخرى أنه إسم مستعار لشخصية حقيقية، وكان يؤكد أنه يخشى تأويل قصائده الغرامية لريتا، فقال في لقاء صحافي عام 2022: "أخشى أن يُؤول الحب بصورة عامة إلى موضوع من خارجه. أتعامل مع المرأة ككائن إنساني، وأُجري معها حواراً شعرياً إنسانياً متكافئاً بين كائنين إنسانيين. للأسف في ريتا تتداخل نساء عدة، صارت ما يشبه الشيفرة، لذلك أقلعت تماماً عن الكتابة عنها لكي لا تتحول (سجل أنا عربي) عاطفية. أنه بحلول حرب يونيو 1967 انتهت القصة. فقد دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسية بين الطرفين، لم تكن واعية بها من قبل. تصوّر أن صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلاً، أو حتى في القدس، ذلك لن يثقل فقط على القلب، ولكن على الوعي أيضاً. حرب 67 خلّفت قطيعة عاطفية في علاقة الشبان العرب والفتيات اليهوديات".
وبعد وقوع هزيمة 1967، قال درويش في "يوميات الحزن العادي": "عدتُ إلى زنزانتي من جديد، وفكرت بها، ماذا تفعل الآن؟ كانت في مدينة نابلس، أو في مدينة أخرى. واحدة من الفاتحين تحمل بندقية خفيفة. ولعلها في تلك اللحظة كانت تأمر الرجال برفع أياديهم، أو الركوع على الأرض، أو لعلها كانت تشرف على استجواب، أو تعذيب فتاة عربية في مثل سنها، وفي مثل جمالها السابق".