يطول الحديث مع فنان يمتلك أدوات قيادة الأوركسترا أكاديمياً وروحياً، ويثقافة ملفتة، ونتوقف عند كلمة "ثقافة"، التي تجعلك تسترسل معه في مواضيع، يغوص في ها بعمق، ليغذي عقل الشخص الذي يتحدث معه بمعلومات هامة، كما يغذي روحنا بإبداعه الذي هو نتيجة بشغفه الكبير بعمله.
المايسترو الدكتور الرائع لبنان بعلبكي، في الجزء الثاني -وليس الأخير- من اللقاء معه، وصف لنا بعلبكي السيدة فيروز كما يراها في عينيه، وحدثنا في مواضيع فنية دسمة، كما سمحنا لأنفسنا بأن ندخل في حياته الخاصة.
موسيقى "شوبان" و"بيتهوفن" غير مسجلة، وكل شخص يقدمها على طريقته، هل هناك تقنيات تلزمكم بالعمل على طريقة ما؟
هناك تقنيات محددة، ولكن أولاً يجب أن نعلم أن "بيتهوفن، شوبان" ليس لديهما تسجيلات بهذه الألحان، هما تركا لنا نوتات موسيقية، ولكن كتبت بشكل ضمن القوانين الموسيقية، نحن نأخذ من الملاحظات التي سجلت على المقطوعات الخاصة بهما.
أما الأمر الثاني، فقد تعلمنا عندما كنا في مرحلة الدراسة الجامعية تأدية الأنماط الموسيقية بالمرحلة الكلاسيكية بالشكل الذي كانت تقدم به، إلى وظيفة الآلات، الصوت الذي يجب أن يصدر منها، الجملة الموسيقية تقدم بطريقة معينة، ومع تراكم الخبرات والعلم، لأنه كقائد أوركسترا، لا يكفي أن يدرس الشخص في الجامعة، بل يقوم بدارسة "ماستر كلاس"، ويسأل ويتعلم من أشخاص، ومعظم من تفوقوا في هذا المجال كانوا يبحثون عن قائد أوركسترا متمكن، لنجري معه أحاديثاً، ونتمكن من التقاط أي شي يفيدنا في المجال، وبقيت فترة أبحث في معظم بلدان العالم، بين سويسرا ولندن، فأخذنا العديد من الأسرار عن تأدية الأعمال والمقطوعات الكلاسيكية.
من هو المؤلف الكلاسيكي الذي تحبه وتفضله على باقي المؤلفين؟
الأعمال هي بحر من الجمال، لا يمكنني أن أحصرها في شخص واحد.
هل ذكريات "بيتهوفن" هي التي جعلته يستمر في تأليف الموسيقى حتى بعد فقدانه سمعه؟
بيتهوفن فقد سمعه مع الوقت، ذاكرة الصوت الموسيقية التي يمتلكها قوية جداً، ولديه مخيلة موسيقية خارقة، فلدى الموسيقين خيال موسيقي، إذ إنه يكون جالساً، ويمتلك القدرة على سماع الصوت الموسيقي أو آلة معينة، فهو قادر على أن يتخيل صوتها، وبيتهوفن كان يدوّن ذلك على الورق، وما تخايله كان مشابهاً للحقيقة.
الكاتبة جورج ساند كانت ملهمة شوبان، وكانت تنام تحت البيانو الخاص به، من هي ملهمة لبنان بعلبكي؟
هو كان محظوظاً لأنه عاش قصة حب فيها الكثير من الشغف، أما بالنسبة لي، فأنا لم أتوفق مثل شوبان بعلاقة تلهمني إلى هذه الدرجة.
إذا هناك قسمان، أحدهما عاش حالة حب إلى حد الإلهام، وهناك أشخاص مثلي لم يتوفقوا حتى الآن.
قلبك ليس فيه سوى إبنتك "نور"؟
قلبي لإبنتي نور، ولحب الموسيقى، والموسيقى إلهامها موجود بداخلها.
وماذا عن مواصفات فتاة أحلامك؟
في العلاقات، يجب أن نمتلك لغة مشتركة، وليس من الضروري أن تكون لدينا هوايات مشتركة، بل أن يكون هناك حب متبادل وتقدير لما يقدمه الشخص الآخر من أعمال، وليس حباً لشخصه فقط، وأنا كموسيقي يعيش من الموسيقى ولها، الفتاة التي تريد أن تكون في حياتي، يجب عليها أن تعشق ما أقدمه، كما سأعشق أنا ما تقدمه هي.
كونك قائد أوركسترا عالمياً، وإنطلقت من مهرجانات إهدن وبعلبك إلى العالمية، أخبرني عن صوت السيدة فيروز، وعن الإنفراد بخامة الصوت.
فيروز هي حالة خاصة تمر كل 300 -400 عاماً مرة واحدة، ليس فقط في لبنان، بل بالحياة ككل، معظم الناس يعرفون قيمة فيروز، وكذلك اللحظة التاريخية التي ولدت فيها، فهي كانت محاطة بعمالقة كبار جداً في هذا العالم، شعراء وملحنين، على رأسهم سعيد عقل، الأخوين رحباني، فيلمون وهبي ومحمد عبد الوهاب.
خامة صوت فيروز هي نعمة من الله، إلا أنها إمتلكت خبرة موسيقية عالية، والأمر واضح في غنائها، فأنا لم أجلس مع فيروز يوماً، إلا أنني أستطيع تقدير إلمامها في بناء الجملة الموسيقية، وهي لديها مخارج حروف سليمة ورائعة، وكذلك لغة التعبير، إذ كانت تجعل الشخص يعيش حالة الأغنية التي تغنيها.
كل مرة أسمع فيها فيروز تعتريني حالة من الدهشة، فهي عملت على نفسها كثيراً لتصل إلى هذه المرحلة، وتؤدي المقطوعة الموسيقية بكل تفاصيلها من دون أي خطأ، وسخّرت حياتها كلها للفن والمغنى، ويتجلى هذا الأمر في فيروز وبقوة.