قبل أيام قليلة غادرتنا الفنانة التشكيلية القديرة لوسي توتونجيان بعد صراع مع فيروس كورونا، تاركة خلفها مسيرة حافلة بالانجازات الفنية والثقافية والإنسانية. هي تجلس اليوم مع الملائكة، تطمئن حيناً على أولادها وأحبتها، الذين لم يستطيعوا تقبل رحيلها، وحيناً آخر على وطنها الذي أعطته أكثر مما أعطاها، وكرمته وناضلت من أجل تحسينه.
تربت الرسامة الخلوقة على العطاء والانفتاح وتقبل الآخر، فهي لم تفرق يوماً في مساعداتها بين المجتمع الأرمني والمجتمع اللبناني أو غيرهما، ولم تسأل يوماً عن هوية من يلجأ إليها.
فنياً كانت لوسي مثالاً أعلى لكل الفنانين، ولم تبخل يوماً بنصائحها على المبتدئين، فكانت تفرح حين تساعد، وتخجل مِن مَن كان يشكرها.
لوحاتها تبكي فراقها، كتبها التي ملأت بها شغفها بالطهي تتساءل عنها بين أحرفها، والبيانو الذي تعود على أناملها، حائر بعد أن فقد حبيبته التي رافقته لسنوات طويلة.
يقول السيد آفو توتونجيان، إبن الراحلة، إن هدف لوسي كان دوماً النهوض بالفن والمستوى الثقافي للمجتمع بأكمله، ولم يكن الربح المادي ولا حتى الشهرة، فكل المعارض التي نظمتها الراحلة، كان يذهب ريعها للجمعيات الخيرية، وعلى الرغم من انشغالاتها، كانت تخصص وقتاً كبيراً لدعم الجمعيات التي تحمي وتساعد الأولاد.
كانت لوسي توتونجيان تقول دائماً "ليس المال هو ما يجعل الإنسان سعيداً، بل مساعدة الآخر، وإعطاؤه السعادة والبهجة"، وهذه كانت قاعدة في حياتها.
ويؤكد آفو أن الراحلة كانت حريصة على تمضية الوقت مع الأشخاص الذين كانوا بحاجة إليها أو عانوا من مرض، فكانت ترفع من معنوياتهم بوقوفها الى جانبهم.
على الصعيد العائلي، كانت لوسي متعلقة بعائلتها وأحفادها بشكل كبير، أما عن الدرس الذي تعلمه أولادها منها، فيقول آفو في هذا النطاق :"كانت تطلب منا دائماً أن لا نفرق بين شخص وآخر، حتى لو كان مختلفاً عنا من حيث الدين أو العرق أو الجنسية، وهذا التفكير ورثناه أيضاً من جدي الذي عملت معه في مصر، كما أنها علمتني أن أنظر دائماً الى الجانب الإيجابي من الأمور لحل أية مشكلة".
وسألنا آفو إن كان وورثة لوسي، وضعوا خططاً لإحياء ذكراها بعد رحيلها، وعن مصير الأعمال واللوحات التي تركتها، فقال :"كنت أفكر في هذا الموضوع، وأعتقد أنه عليّ وأشقائي أن نحذو حذوها، وننظم معرضاً لجزء من أعمالها يعود ريعه للجمعيات الخيرية، وأنا أعلم أن هذا ما تريده هي، فحتى قبل نقلها الى المستشفى، كانت ترسم كل يوم، ولم تفارقها ريشة الرسم".
أما بالنسبة إلى حقها المعنوي في ظل إهمال الدولة اللبنانية الفنانين لسنوات طويلة، وإن كانت لوسي قد أُنصفت خلال مسيرتها، فقال آفو إنه لا يريد أن يلوم الدولة، لأنه لا يعرف كيف كان من الممكن أن تعطى والدته حقها في هذا البلد.
وفي ختام حديثه، وجه آفو كلمة مؤثرة لوالدته، وقال إنه يعلم أنها موجودة الآن مع الملائكة، ويتمنى أن يلتقي بها مجدداً، مشيراً إلى انه لو قام بربع ما قامت به في حياتها من أعمال للبنان، سيكون راضياً.
ونحن في موقع "الفن" نقول إنه برحيل الفنانة التشكيلية لوسي توتونجيان، فقدنا ركناً أساسياً من أركان الفن الراقي، فهي لن يكررها التاريخ، ولن ينساها، بعد أن حفرت اسمها بين أشجار الأرز الخالدة، وتركت لذكراها ابتسامة على وجه كل من عرفها.