عسجدية الديباج، زمردية التخيلات، أرستقراطية العبارة.
تزن كلمتها بميزان الذهب والياقوت. روائية ترسم بمرود السحر على ورق اللوز. صقلها صفاء ذهن وصدق وجدان وعبقرية خيال.
شاعرة ترسم بحبرها آيات معروقة بماء الزهر وتخط بذوبان العروق ولهفات العيون وكد الأنامل. إنها الروائية والشاعرة مجدولين الجرماني التي كان لموقع "الفن" معها هذا اللقاء إثر توقيع روايتها "مورفين أحمر".
كيف تعرّف ماجدولين الجرماني الكتابة؟
الكتابة هي تجسيد مرئي بكافة اللغات، تجعلنا نتمكن من حفظ افكارنا وارسالها رغم المسافات الشاسعة من الزمان والمكان، برأيي هي أهم لبنة في بناء الحضارة لتسجيلها ماهية الصوت.
أخيرا هي وسيلة توثق وتؤرخ أحداث مجتمع ما بوقت وزمان ومكان ما، تعبر عن نفس الإنسان وتطور فكره ووعيه سياسيا وعلميا واقتصاديا أو حتى دينيا، ووسيلة تواصل بين ذواكرنا الداخلية ومحيطنا الأوسع بطريقة سلسة ومحببة، فأنا يراعي هو صرختي المعبرة عن مكنوناتي وانعكاس ما يحصل في هذا الزمان.
هل انعطافك صوب الرواية بحكم اتساع الرؤية ونضج التجربة نضجا اكبر او ان دوافع أخرى تقف وراء هذا الانعطاف؟!
الرواية هي محيط اشمل من الأشخاص والاحداث الموثقة بالحبر، بحيث تكون اقدر للوصول لاكبر قدر من شرائح المجتمع المختلفة، أعتقد بان كل ما يمر بنا يزيدنا نضجا ووعيا طبعا بالتأكيد بالاضافة للرصيد الثقافي والعلمي، فانا من خلال تجربتي كمرشدة اجتماعية ونفسية خاصة في الأزمة السورية طويلة الأمد قررت الانعطاف لمنحى الرواية كي أعمل على توسيع دائرة الرؤية وايصال رسائل برمجية مهمة على الجميع لمسها اكيد الشعر كائن جميل، لكنه لا يفي بتقديم رؤية شاملة فالرواية تعبر الوعي الانساني وتترسخ احداثها لدى المتلقي حتى في اللاواعي، وهنا ندرك أهمية تقدير ما نكتب.
أليست القصة القصيرة او القصة القصيرة جدا معنيّتين بالتكثيف مثل الشعر وهما أقرب إليه من الرواية؟ بتعبير آخر أما كان الأَولى بك ان تنعطفي صوبها؟
كتبت الكثير من القصص القصيرة جدا ونشرت طبعا لانها هادفة وتحاكي الواقع المعاش، لكن في القصة القصيرة جدا لا يمكننا اخذ مساحة كافية فهي تقدم فكرة من زاوية واحدة، بينما الرواية تأخذنا لعالم مختلف، فهي تقدم عالماً متكامل الوقائع والإحداثيات والإسقاطات، فانا بالرواية استطيع العبور داخل النفس البشرية ومكنوناتها، تجاوبها مع الحوادث المطبقة عليها، وانعكاس ذلك على المجتمع ومسيرته، كذلك دمج الحضارات حسب رؤية مستقبلية، مما يعني أني استطيع التحليق للمدى الأبعد وبنفس الوقت نقل صورة مصغرة عن مجتمعاتنا الآنية.
هناك طرائق بناء عديدة للرواية، ما افضلها بقناعة ماجدولين جرماني؟
أول قاعدة هي المهارة اللغوية بحيث بهذا النسيج المبدع نستطيع ايصال أي فكرة للقارئ بشكل مرئي، ثم التماهي مع الشخصيات التي نرسمها ونجسدها، بمعنى معرفتها، لمسها، بحيث نعمل بكامل حواسنا كاننا نتقمص كل الشخصيات التي نروي عنها، فنبكي ونضحك ونغضب ونتألم ونحب هكذا نصبح نحن الرواية، ثالثا، التجربة الشخصية مهمة جدا، إذ نادرا ما نستطيع الكتابة عن شيء لم نختبره بوجودنا، او الاصغاء له ورؤية تفاصيله الدقيقة، ثم تدوين الافكار بشكل يومي مهم جدا فذلك يسهم بتطوير حبكة الرواية وتحديد موضوعها وافكارها الرئيسية، بعدها تحديد العناوين الرئيسية وابواب الرواية.
والخيال مهم جدا للكاتب في بناء روايته، اي ان يخاطب خيال القارئ، عليه تخيل نفسه هو الجمهور الذي يقرأ الرواية وذلك باختيار الشخصيات وتجسيدها، الإثارة والتساؤلات والشغف لمعرفة الأحداث مهمة جدا في بناء الرواية، والأهم الاسلوب السردي الذي من خلاله يستطيع الكاتب ايصال الرسالة الموجهة للمتلقي او القارئ،
هذا يعني أن الرواية تحتاج عصف ذهني وصياغة واعداد وبناء شخصيات ودراسة نفسية دقيقة للشخصيات لتجسد ملامحها وتفاصيل حركتها كي يبني الكاتب فكرة ملهمة ومفيدة.
أخيرا ...القراءة قبل الكتابة لأن الكتابة فعل ناتج عن القراءة.
ما موقفك من تعدد الرواة في السرد الروائي؟
فليأخذ الجميع فرصته في التعبير والمكاشفة عن نفسه وعقله ووعيه ومجتمعه، بنهاية المطاف القارئ هو من يختار من يستمر عالقا في الذهن ويحيا لأجيال متعاقبة، ومن ينطفئ حرفه ويذهب أدراج الرياح.
ان الرواية ميدان واسع وعالٍ وعميق معا لتقديم رؤية للعالم بحسب تعبير لوسيان كولدمان، ما رؤيتك للعالم وأنت تشتغلين أدبيا بفن المكان ( الرواية) ؟
المكان هو انطلاق الروح للكاتب وتصوير الشخصيات من خلاله، بحيث استشهد بمقولة للقاص ناصر الريماوي ( حتى يتحول المكان في القصة الى مادة فنية رائعة يفترض بنا المواءمة باقتدار بين تلك الواقعية الحنونة المؤثرة، وذلك المجاز الرحب المحايد عند التوظيف بحيث يفترض بالجانب التخيلي ان يكون ملهما وحاضرا حتى في تحري الشفافية المفرطة في النقل لذلك المكان نحو فضائه القصصي).
وأنا اقول بان المكان يتجاوز الحالة الفيزيائية الصامتة ليتكلم أو يصرخ بحيث يصل للقارئ أو المتلقي حسب ثقافته ووعيه الفكري.
والمكان هو ركن اساسي في السرد الروائي، وأنا في روايتي وضعت المكان المجازي متقاطعا مع المكان الحقيقي والواقعي ليشكل مزيجا خلاقا.
أي خلق عوالم جديدة تراوحت بين الواقع والأسطورة، بين الحلم وسفر الروح المستنبطة والجسد المادي المكبل باحداثيات مفروضة من واقع مكاني جامد.
معروف عن المرأة كائن حساس ويهتم بالتفاصيل فإلى أي مدى تستطيع ان تكون حيادية حيال القضايا التي تتناولها من دون ان تقحم مشاعرها في الرواية؟ والى اي مدى تستطيع فصل الذات عن الموضوع لتماشي شروط الرواية الناجحة؟
عندما تذبل النبتة هذا احتجاج او ردة فعل انعكاسية على عدم تواجد الماء او الضوء وهذا تعبير مجازي ...
فكيف اذا كان الانسان يحيا ضمن تجربة ملموسة، برأيي من حق المرأة ان تصرخ بعمق قضاياها وتشرح مكنونات فرحها وألمها ومتعتها وأحلامها كأي كائن طبيعي.
ولا يمكن لأي كاتب امرأة او رجل، تحييد إسقاط مشاعره عما يكتب، لكن باعتقادي بأن المرأة أقدر على الحياد من خلال مناقشة علمانية لاقحام مشاعرها واظهار التجربة بكافة جوانبها و هنا تتجاوز ببساطة على أن يكون المتلقي ذو إدراك وفكر.
فالكاتبة المرأة من خلال تجربتي تستطيع فصل ذاتها تماما من حيث معرفتها بتفاصيل علم النفس الانساني والغوص بعلم المجتمعات وأصولها وتطورها، فأهم خطوط الرواية يتم رسمها من خلال الدراسات النفسية والنظر من خلال عدسة مكبرة لما يحصل والحدس بالتوقعات المستقبلية.
اسم الراوية "مورفين أحمر" ورسمة الغلاف امرأة فهل المرأة برأيك هي المورفين الأحمر؟
المرأة التي على الغلاف هي شام شامنا الجريحة المقاومة لكم الدماء الذي سال على تراب سوريتنا الطاهر، هي شام بطلة روايتي المتحدية لكل العتم، الآلهة الأنثى المصرة على انبثاق النور وتصحيح المسار على الرغم من كل الفساد المحيط بها، ثم هي مورفين حسب الرؤية البنائية للآخر، لأنها الداء والدواء.
من اين استوحيت هذا الإسم ولماذا اخترته؟
جدلية الالوان مثيرة فهي تعطي ابعاد كونية مختلفة، وتنقلات اللون النفسية تضيء عدة وجوه ربما لخط واحد يصعد بنا لسماء الكوكب ويهبط بنا لجحيم النفوس، فالأحمر لون الحب والجنس الذي يعتبر طاقة كونية عليا للابداع ولون المال الذي هو عصب الحياة وأساس بناء مجتمعات وبنفس اللحظة هو لون الدم الناتج عن القتل والارهاب ولون السلطة التي تعيث فسادا في البلاد، فأي تناقض نحياه بلون واحد يتماهى معنا بآلاف الحيثيات والاستنتاجات.
والاهم بان هذا اللون الاحمر للنبتة الطبيعية للمورفين يحوي بداخله مادة حليبية بيضاء وتدل على طبيعة الانسان وفطرته النورانية فكل هذه المعمعة تحوي بداخلها نور لنرتقي فقط عندما تنجلي الرؤية عن القلب ...اما المورفين فهو مادة مخدرة ويخيل لي بان الجنس والمال يستخدم كمادة مخدرة على طبقة كبيرة من القطيع البشري الذي لا يمتلك اكثر من هز رأسه بالموافقة والمسير حسب المخطط له من فئة بسيطة تملك الذكاء المفرط والسلطة وقوة تحريك الشعوب بما تراه مناسبا لاداء رقصة خاصة بها.
يرتبط المورفين بتخفيف الوجع للمرضى فهل المرأة برأيك تخفف الوجع في الحياة أم انها لإنهاء حياة المصاب او المتألم؟
المرأة هي "سيروم" الحياة وزهرة الكون المتوجهة القادرة على صنع المعجزات وبناء الحياة كلما فنيت، والوجه الآخر لها ( ميدوسا ) الذي يدمر كل الوجود بانحناءة منها انها المرأة سلاح ذو حدين فتعلم كيف تتعامل معه بلطف لتأخذ منه أكسير الخلود.
هل أعطيتِ لشخصيتك وافكارك دوراً ضمن الرواية؟ او الى أي حد تشبهك هذه الرواية؟
ربما هذه الرواية فيها الكثير من مبادئي او تقنياتي ربما انا شام و حجارتها القديمة وربما أنا هيرا بكل الوهيتها وربما انا الحزينة والفرحة، اذ لا يمكن فصل الكاتب ومكنوناته عما يكتب اما نسبة الشبه فأعتقد أنها ألف من لغتي ولدي الكثير الكثير من باقي حروف الأبجدية قريبا.
الى اي حد يضع الروائي نفسه داخل الرواية او يعطي لنفسه دورا ليشكل شفاء نفسيا معينا لذاته؟
لم لا نقول : كيف يعكس البشر خبرتهم الواقعية بالرواية.. فالتأطير ضمن صفة او اسلوب او سلوك لا يفي بالغرض.
(هناك مقولة شهيرة لفرويد: إنّ الفن والأدب يعملان بوصفهما شكلين تعويضيين للإشباع، يحلان بالنسبة إلى الراشد مكان عالم الطفولة المفقود المتّسم باللعب والنزعة الهروبيّة، وعندها أنّ المتخيّل الأدبيّ شكلٌ من أشكال اللعب الضروري للمجتمع البشري.)
وانا اقول بان اعطاء الكاتب فرصة لعرض مكنوناته الداخلية او المتسترة وعرضها للمعالجة او الرؤية العامة هي درجة اولى في تخطي تجربة ما مر بها لكنها ليست طريقا للاستشفاء او معالجة الذات... للتوضيح هي المجاهرة للآخرين بخطر اللعبة أو سذاجتها أو سعادتها وبالنهاية هي كاميرا فلاش تعرض بعفوية ذاكرة ...
ما هو موقفك مما وصلت اليه الرواية اليوم؟ وهل نحن في عصر انحدار او إزدهار للرواية والروائيين؟
بصراحة الموضوع ليس ازدهار او انحدار وهذا التقييم لا يتم بشكل حقيقي إلا بعد مرور اجيال بحيث يقيمون الاعمال القائمة الآن، لكن لا استطيع سوى أن اعطي رأيي الذي يخصني وحدي بأن الأعمال الروائية باتت مستهلكة وعلى نفس الرتم من دون وعي أو هدف من نشرها، وأيضا يوجد الكثيرون من المبدعين الذين ظلموا اعلاميا وماديا ومازالوا مغمورين للآن.
أين تتقاطع مجدولين الشاعرة مع مجدولين الروائية وأين تنفصلان؟
التقاطع بين الشعر والرواية شيء عادي جدا وهو مطروق من الكثير وذلك لسبب،
لا يمكن الانفصال سوى بطريقة نقل الافكار بين نص شعري قد يتسع لفكرة واحدة او فكرتين وطبعا ادوات الشعر مختلفة بينما تعد الرواية شكلاً آخر من البوح، إنه عالم السرد الفسيح، الذي يتكئ على الجملة الطويلة، وهو عين تصور التفاصيل الخارجية والداخلية، وعلى ابتكار الأدوات لأخذ القارئ عبر سراديب الحكاية وعبر متاهاتها ثم الوصول به نحو مقولة الرواية الرئيسية.