لم تستطع بيروت بعد لملمة جراحها واحتواء الفاجعة التي ألمّتْ بها يوم 4 آب الماضي، على رغم المبادرات الإنسانيّة المحلية والدولية لدعمها.
ولايزال حجم الدمار والمأساة الإنسانية أكبر بكثير من الخطط الموضوعة حتى الآن، وتبقى الحاجة ملحّة للمساعدة على جميع المستويات: الإنسانية والعمرانية والنفسية. لذا، أتت هذه المبادرة المتمثّلة في مشروع ثقافيّ موسيقيّ عمرانيّ، يهدف إلى ترميم أبنية تراثية مأهولة في المنطقة المنكوبة في بيروت. ولا سيّما الشباب منهم ولأطفال، سعيًا لتمكينهم والوقوف إلى جانبهم في مواجهة قرار الهجرة الناتج من اليأس في بناء مستقبل في وطنهم، ومساهمة في استعادة استقرارهم النفسي والاجتماعي.
وتتفرع سائر الأهداف وهي:
اختيار الأبنية المسكونة منذ عقود ولا تزال مأهولة حتى اليوم.
وإعادة الروح إلى المنازل وبثّ الحياة فيها عبر عودة ساكنيها.
ومواجهة مشروع تغيير هويّة المنطقة السكانيّة عبر الحدّ من التغيير الديموغرافي الناتج من النزوح القسري بسبب تدمير البيوت وهجرتها.
المشاركة في استعادة الاستقرار النفسي لدى الشباب والأطفال عبر إعادتهم إلى منازلهم وربطهم بذاكرة المكان
الحفاظ على هويّة بيروت الثقافيّة، الحضاريّة، العمرانيّة، التي تجسّدها بيوت تراثيّة صنعت صورة المدينة في التاريخ.
أُطلق المشروع عبر مؤتمر صحافي عُقد في الجميزة، حضره محافظ مدينة بيروت القاضي مروان عبود ورئيس بلدية بيروت المهندس جمال عيتاني ورئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير وممثل المكتب الإقليمي لمنظمة الأونيسكو جو كريدي ونقيب المقاولين مارون الحلو، وشخصيات دبلوماسية وسفراء عرب وأجانب وممثلون عن وزارات ووجوه نقابية وثقافية واجتماعية ورجال أعمال وحشد إعلامي كبير. قدّمت اللقاء الإعلامية ماجدة داغر وافتتحت المؤتمر المؤلفة الموسيقية ومغنية الأوبرا د. هبة القواس ومما جاء في كلمتها: "حين راودتني هذه الفكرة المجنونة، تنفستُ عميقاً ومدَدتُ يدي تماما كما أفعل حين أغنّي، فوجدتُ أيدي حبيبة، تنضمُّ الى يدي الممتدة، وأعرف تماماً أن كلَّ يدٍ ستنضمُّ بِحبّها وايمانِها هي يدُ لبنانَ اليقين.
كلُّ مبدعٍ في التاريخِ يحلمُ بانجازِ مساهمةٍ في المستقبل الذي يكتبُ التاريخَ، وأنا اليوم، أقفُ كمؤلفةٍ موسيقية، أحلمُ بإرادةٍ وبيقينٍ من لبنان أن أساهمَ في ترميم ما رسم ملامحَ بيروت الجميلة، وشكّلَ هويتَها المعمارية، أحلمُ أن أرممَ تراثَنا الذي صنعَنا، هذه الأبنية التي تنفستْ عشراتٍ ومئاتٍ من السنين على هذا البحر المتوسط".
وتحدث الدكتور موفق اليافي قائلاً: "نظراً لما يعانيه قسم كبير من اهلنا في بيروت في هذه المنطقة المنكوبة فإننا نأتي من مختلف المشارب والمناطق لتأكيد تضامننا مع بعضنا البعض، ولتأكيد وحدتنا وتضامننا كشعب لبناني في مواجهة الأزمات مترفعين عن أي اختلاف فيما بيننا، لذلك اتخذت مجموعتنا هذه المبادرة بالتعاون مع باقي المؤسسين في مؤسسة هبة القواس الدولية والمجلس الالماني اللبناني للتراث والانماء ومنتور ارابيا للوقوف الى جانب أهلنا المتضررين في هذه المنطقة المنكوبة في إطار مسؤوليتنا الاجتماعية لمساندة العائلات المتضررة من جراء الانفجار بغية تمكين العائلات من الاستقرار".
قال الأستاذ الياس الأسود: "بمشاركتنا في إعادة بناء حبيبتنا بيروت، بيروت ملتقى الحضارات والثقافات التي ما يزال جرحھا ينزف في القلوب وبما أن بيروت لا تموت وبما أنني بطبيعتي متفائل تكاتفنا منادين في جميع الاتجاھات لإعادة احياء بيروت خاصة شارع الجميزة شارع مدرستي حيث نشأت ولداً ومراھقاً وبعد سبعة اسابيع من الكارثة ما زلت لا استوعب حماس العالم أجمع للعطاء وإعادة الاعمار مشكلتي الوحيدة انني عاجز عن شكر الشباب صغارا وكبارا أينما كانوا سواء في لبنان أو خارجه لما يقدمونه لبيروت. وأنھي بشكر خاص للفنانة ھبة القواس وللدكتور موفق اليافي لتعاونھما وفريقھما لإنجاح ھذا العمل تكريما لعيون بيروت وللبنان".
وفي كلمة السيدة ثريا إسماعيل جاء الآتي: "إنّنا نسعى من خلال هذه المبادرة بالشراكة مع مؤسسة هبة القوّاس الدوليّة ومجموعة اليافي والمجلس اللبناني الألماني للثقافة إلى إحياء "بيروت في منازل الذاكرة"، ذلك من خلال تدعيم المباني المتأثّرة بالانفجار وتقديم الدعم الاجتماعي والمعنوي والنفسي للأطفال والشباب الأكثر تضرّرا من تبعاته. كما ستشكّل هذه المبادرة الممّيزة والقائمة على الشفافية والمصداقية العالية، منصّة لتشجيع الشباب على العمل التطوّعي لخدمة مجتمعاتهم والمساهمة بإعادة إعمار وطنهم، وخطوة حقيقية لإعادة إحياء الأمل لدى الشعب اللبناني من خلال الفن والمحبة والاستثمار بالحجر والبشر معاً".
وكانت مداخلتان الأولى لرئيسة مجلس أدارة رئيسة تحرير صحيفة النهار السيدة نايلة التويني الشريكة الإعلامية في المشروع ومما جاء فيها: " بيروت في منازل الذاكرة " عنوان مثير لأن بيروت غارقة في القِدم، وغارقة في التراث، وفي الحضارة، والمحافظة عليها واجب، واذكر جيداً انه في مرحلة ما بعد الحرب خصص غسان تويني صفحة يومية من "النهار" سمّاها "بيئة وتراث" ترافق كل أعمال الحفر الجارية في العاصمة كي لا تضيع الآثار او تُنهب او تُطمر، وجعل الموضوع قضيته وقضية "النهار" الأولى لزمن(...) وهذا العنوان هو فعل ايمان، ورسالة رجاء، وأمل في مستقبل سنبنيه معاً، وسنعيد اعمار البيوت والمدارس والمحال والمتاحف، وسنعيد بناء الانسان اللبناني الذي هو الثروة الحقيقية لكل البنيان".
ثم تحدث مدير عام الآثار في وزارة الثقافة راعية المشروع المهندس سركيس خوري وقال:
"نحن في وزارة الثقافة المديرية العامة للآثار فنعتبر أنفسنا اننا اصبنا في عقر دارنا لما تتمتع به هذه المنطقة من طابع تراثي ومعماري مميز وغني يمزج بين الفترة العثمانية وفترة الانتداب ومن التراث لمعماري الحديث(...)
تم تحضير تقرير ومسح اولي للاضرار الناتجة وقد تم إحصاء أكثر من ٦٤٠ بناء تراثي متضرر بينهم حوالي ٤٥ مبنى يحتاجون إلى تدعيم كامل لمنع انهيارهم وحوالي ٥٠ مبنى بحاجة إلى تدعيم جزئي و١٠٠ مبنى بحاجة إلى تغطية من أجل حمايتهم من مياه الشتاء. وقد قامت وزارة الثقافة المديرية العامة للآثار فورا ومنذ اللحظة الأولى وبتوجيهات من معالي وزير الثقافة بتشكيل خلية لادارة الأزمة وقد انضم اليها حوالي أربعون مهندسا مرمما من قدامى طلاب معهد الترميم في الجامعة اللبنانية ولجنة الأبنية التراثية في وزارة الثقافة والعديد من المهندسين المتخصصين في مجال التراث."
يحمل المشروع طابعاً موسيقياً، ثقافياً، تراثياً، إنسانياً يهدف إلى إعادة إحياء تراث بيروت واستعادة هويّتها الثقافية الحضارية العريقة، عبر إطلاق حملةٍ محلية بدعم عالمي لترميم اثني عشر بناءً تراثياً هُدم جزئياً أو كليّا جرّاء انفجار المرفأ. في محاولة من القواس والشركاء والداعمين، لنفض غبار الركام الذي غطّى وجه بيروت، لتمكين السكان الذين هجروا بيوتهم من جراء الانفجار، من العودة إليها بأقرب وقت خصوصاً قبل فصل الشتاء. وبالتالي للمساهمة في الولادة الجديدة التي سوف تشهدها سيّدة المدائن ولؤلؤة المتوسط، عبر الحفاظ على ما تبقى من إرثها الحضاري الغني في أبنية كانت مأهولة لتعود الحياة مجدداً إلى ساكنيها وتاريخها.
تشابكت كل هذه الأيدي وتضافرت جهود فريق كبير، ليكون المشروع العمراني الإنساني على مستوى فداحة خسارة البشر والحجر التي حلّت ببيروت، بهدف استقطاب أكبر عدد من الخيّرين والأيدي البيضاء من لبنان والعالم في سبيل التضامن الفعلي مع المدينة المنكوبة وتقديم المساعدة مهما كان حجمها لِبثّ الروح وإعادة الدفء إلى بيوت تحتضن تاريخاً وذاكرة مدينة وأحلام. ولبناء مستقبل وتمكين شباب وأطفال يحلمون بغدٍ مشرق.
ولأن بيروت هي وجه لبنان الحضاري ومنارة المتوسط، فلا بدّ من ردّ الجميل لها بِلُغتها الثقافية والفنية التي حملتها رسالةً إلى العالم. لذا، قام هذا المشروع على دمج الترميم والإحياء بالروح الموسيقية التي ستبعث الحياة في ما تهدّم، عبر إقامة حفل موسيقيّ فنّي مبنيّ على موسيقى القوّاس السيمفونية وأغنياتها الأوركسترالية مهداة إلى بيروت العائدة من الدمار. وكخطوة أولى في المشروع، يُقدّم ريع الحفل لبرنامج ترميم مباني بيروت الأثرية على أن يُستكمل بمشاريع فنية خارج لاحقة خارج لبنان يُعلن عنها تباعاً.
لكي يلتئم جرح بيروت قريباً، ولكي لا تبقى الندوب محفورة في الأجساد والنفوس وعلى الجدران الحزينة، تأتي المبادرات الفردية لتمسك بيد كل من يريد النهوض بمدينةٍ نبذت تاريخاً من الجراح والدمار والموت، لتفخر بتاريخ آخر من الحضارة والعراقة والثقافة.
الدكتورة هبة قواس ليضا كانت لها كلمة في المناسبة وقالت
ربما هو انفجارُنا جميعاً ما أعطى القوةَ الدافعة لكل اللبنانين الذين حملوا على أكتافِهم الجرحى وركضوا بهم فوق الدمار، ولكل من هُرِع الى مستشفى متطوعاً ليملأَ فراغَ هوّةِ الكارثة التي أصابتنا جميعاً، ولكل من شاركَ طعامَه وانتقلَ بمطبخِ منزلِه الى شوارعِ بيروتَ المتضررة، ولكل من حمل رفشاً أو مطرقةً أو شبّاكاً أو باباً أو ما يغطّي عراءَ المنازل خوفاً على قاطنيها، قوةٌ دافعة معدية، كقوةِ بكائِنا الذي لم يتوقفْ منذ حينِها، قوةٌ ربما جعلتْني أجرؤُ على القيامِ بمبادرتي هذه. حين راودتني هذه الفكرة المجنونة، تنفستُ عميقاً ومدَدتُ يدي تماما كما أفعل حين أغنّي، فوجدتُ أيدي حبيبة، تنضمُّ الى يدي الممتدة، وأعرف تماماً أن كلَّ يدٍ ستنضمُّ بِحبّها وايمانِها هي يدُ لبنانَ اليقين.
كلُّ مبدعٍ في التاريخِ يحلمُ بانجازِ مساهمةٍ في المستقبل الذي يكتبُ التاريخَ، وأنا اليوم، أقفُ كمؤلفةٍ موسيقية، أحلمُ بإرادةٍ وبيقينٍ من لبنان أن أساهمَ في ترميم ما رسم ملامحَ بيروت الجميلة، وشكّلَ هويتَها المعمارية، أحلمُ أن أرممَ تراثَنا الذي صنعَنا، هذه الأبنية التي تنفستْ عشراتٍ ومئاتٍ من السنين على هذا البحر المتوسط، ورسمتْ بيروت إلهةً بدلالِها تحاكي إيل من وراء الأزمنة، لا تزالُ حيةً بساكنيها تتشاركُ معهم تفاصيلَ حياتِهم، وتصنعُ معهم ذاكرةً محملة بكل أقطاب الحياة.
في هذه المنطقةِ المنكوبة من بيروت، هويةُ جمالٍ حافظتْ على ملامح ذاكرتِنا جميعاً…
لا أعرف كيف أعيدُ الصورَ المفقودةَ والأشياءَ المحببة على قلوبِ سكانِ بيوتِ هذه المنطقة العتيقة، لكن معاً يداً بيد سنعرف كيف نعيدُ الأمانَ لقاطني هذه الجدران الجميلة، وسنعرف معاً كيف نعيدُ التوازنَ النفسي لأطفالٍ لم يفهموا لماذا اقترب الموتُ من عيونِهم، ولماذا فقدوا من أحبابهم ومن الكثير مما كوّن ذاكرتَهم، وسنعرف معاً كيف نعيدُ الارتباطَ ببيروت للشباب الذين أصبحوا يحلمون بملاذٍ بعيدٍ عن أرضهم، هذه البيوت العتيقة هي تراث مادي كما يقال، لكن هي ليست فقط تاريخاً وفناً وجمالاً وعمارةً وتفاصيلَ لاتنتهي... هي الإنسانُ والام و الأب والجدُ والجدّة والشاب والطفل والعائلة... هي الروح التي لا تتركُ بيروت