شكّل لقاء عاصي رحباني بفيروز نقطة تحوّل بتاريخ الفن في لبنان، أدت مع إقتناعه بموهبتها ووقوفه إلى جانبها وتبنيها، ومن ثم تقديمها في غالبية أعمالهما، الأثر الكبير الذي طبع تاريخ لبنان وفنه وموسيقاه إلى الأبد، فقد صقلا صوتاً ندر وجوده، فأصبحت معهما سفيرة لبنان إلى النجوم.
وضع الأخوان رحباني بصمتهما في الإذاعة والتلفزيون، إضافة إلى المسرح والسينما والشعر والتجديد في الموسيقى، حتى أصبحا ظاهرة أرست قواعد جديدة للموسيقى والأغنية اللبنانية.
لقاء عاصي بـ فيروز
عندما إلتقىعاصي رحبانيبـ نهاد حداد، الإسم الحقيقي للسيدة فيروز، للمرة الأولى، كان هو موظفاً في الإذاعة، وكانت هي مغنية في الكورس في الإذاعة نفسها، أما منصور فكان لا يزال شرطياً. حليم الرومي هو الذي قدمهما لبعض. في البداية إعتقد عاصي أن صوت فيروز غير مناسب لأداء الأغاني الغربية، لكنه كان مقنعاً بالنسبة لحليم الرومي، ومن جهة منصور كان رأيه أن هذا الصوت هو الاختيار الخاطئ لأعمالهما، لكنه اعترف لاحقاً بأنه كان مخطئاً جداً في رأيه. بدأ عاصي بكتابة الأغاني لفيروز، غير أنّه بقي يحاول مدّة ثلاث سنوات لإقناع المسؤولين في المحطة بمقدراتها. إذ إنّ الأصوات الرائجة في تلك الفترة كانت أصوات نجوى، حنان وهيام يونس وأخريات، ولكن في النهاية انضمّ منصور إلى عاصي وفيروز وبدؤوا المشوار.
الأخوان رحباني وفيروز
عاد الأخوان رحباني إلى الفولكلور، إلى الماضي، وأخذا بعض الأغنيات وأعادا توزيعها من دون تغيير بالكلام، وفي مرحلة لاحقة صارا يخلطان الألحان الفولكلورية بعضها ببعض، مثلاً "أبو الزلف" و "الدلعونا" مع "على الماني عالماني" في أغنية واحدة مع كلام من تأليفهما، ما أوقع البعض في الالتباس، إذ ظنوا أن الكلام هو في الأساس قديم، بينما هو رحبانيّ صرف.
تبع ذلك تأليف أغانٍ شعبية، مثل "عتاب" ، "راجعة" وغيرهما من الطرب الشعبي اللبناني، وبذلك تشكّلت هويتهما الفنية كموسيقيين لبنانيين بشكل واضح.
أغاني خاصة بلبنان
في ما بعد أحس الأخوان رحباني بضرورة أن يكون للبنان موسيقاه الراقصة الخاصة به، وكانت الموسيقى الدارجة وقتها التانغو والجاز والبوليرو وغيرها من الألحان الغربية، فصارا يأخذان مقاطع من هذه الموسيقى ويضعان لها كلاماً لبنانياً وتوزيعاً موسيقياً جديداً، من دون إدعاء بأنها لهما، بل كانا يقولان إنها مقتبسة ومعرّبة، إلى جانب ذلك وضعا لوناً لبنانياً، مثل: "نحنا والقمر جيران" ووضعا إيقاعات راقصة لأغانٍ فولكلورية، مثل: "يا مايلة عالغصون" و"البنت الشلبية".
بالنسبة للشعر، بدأ الأخوان رحباني بكتابة القصيدة القصيرة المختصرة، التي لا تتجاوز مدة غنائها بضع دقائق، جمعا الموشحات وأعادا إحياءها من جديد، وعملا لها توزيعاً موسيقياً جديداً، وزادا على كلماتها، وكان استقبال الناس لها كثيفاً، ثم صارا يؤلفان موشحات خاصة بهما.
في عام 1955، بعد أن تزوج عاصي رحباني بفيروز، سافروا جميعاً إلى مصر وقدموا وقتها غنائية "راجعون". وفي ما بعد وضع الأخوان رحباني مجموعة من الأغنيات عن القضية الفلسطينية، مثل: "سنرجع يوماً" و "زهرة المدائن".
في عام 1956، اضطرت إذاعة الشرق الأدنى إلى التوقف عن البث، بعد أن قاطعها الكثير من الموسيقيين، بمن فيهم الأخوان رحباني، وذلك استنكاراً لمواقفها السياسية.
مهرجانات ومسرحيات غنائية
ابتداءً من العام 1957 ولدت الحاجة إلى تقديم فن لبناني في مهرجانات بعلبك، فكان الرحابنة أول من استُدعِي، لكن المهرجانات أُلغيت في السنة التالية، بسبب الأحداث التي شهدها لبنان في تلك السنة، في العام 1979 عاد المهرجان، وقدم الرحبانيان "المحاكمة" من بطولة فيروز ووديع الصافي.
شهد العام 1960 ولادة عصر جديد في مسيرة الأخوين رحباني، فلقد بدآ بتقديم المسرحيات في بعلبك ومناطق أخرى، بدءاً من "موسم العز" بالإشتراك مع "صباح" و"وديع الصافي" و"نصري شمس الدين"، ثم "البعلبكية" من بطولة فيروز عام 1961، ثم قدما العديد من المسرحيات الأخرى منها "جسر القمر" عام 1962، "عودة العسكر"، مسرحية "الليل والقنديل"، "دواليب الهوا"، "أيام فخر الدين"، "جبال الصوان"، "ناطورة المفاتيح"، مسرحية "بياع الخواتم"، "هالة والملك"، "يعيش يعيش"، "صح النوم"، الاسوارة"، "الشخص" وغيرها.
مسلسلات وأفلام
كتبا مسلسلين من بطولة "هدى"، أحدهما "قسمة ونصيب" والثاني "من يوم ليوم"، وقدما برنامج "ساعة وغنية" مع ملحم بركات ورجاء طنب، وبعد ذلك أوقف الرحابنة العمل للتلفزيون.
أما بالنسبة للسينما فقررا نقل مسرحية "بياع الخواتم" إلى الشاشة الفضية، كما وافق "نادر الأتاسي" على إنتاج الفيلم. وكان عاصي ومنصور وفيروز وصبري الشريف شركاء في الإنتاج مقابل أتعابهما، كان الفيلم الثاني: "سفر برلك" من إنتاج الفريق نفسه الذي أنتج الفيلم الأول، أخرجه "هنري بركات".
نجاح "سفر برلك" شجع الأخوين رحباني على المغامرة في فيلم ثالث، هو "بنت الحارس" الذي كان موفقاً كسابقيه، والذي أظهر الكثير من الجمال، كما نجح تقنياً بسبب الاستعانة بتقنيين أجانب، كما في الأفلام السابقة، وتم تحميض الفيلم في لندن.
مع "بنت الحارس" يكون الرحابنة قد دخلا الفن اللبناني من مختلف أبوابه: المسرح، الإذاعة، التلفزيون، والسينما، وانتشر هذا التراث الموسيقي والحواري الغنائي بين الناس عبر تلك الوسائل، فراج وبقي في القلوب والنفوس.
مرض عاصي
مع إستمرار النجاحات المتوالية، وصل الرحبانيان إلى قمة فنية، لكن المرحلة بُترت بشكل موجع، ففي يوم من أيام أيلول/سبتمبر عام 1972 وأثناء العمل على الحلقة الرابعة عشرة من مسلسل "من يوم ليوم"، في ذلك اليوم، وفجأة، بدأ عاصي يعاني من آلام مبرحة في رأسه، وبعد نقله للمستشفى تبين أنه كان يعاني من نزيف حاد في الدماغ، أجريت عملية لـ عاصي بعد استدعاء جراح أعصاب من فرنسا وأنقذت حياته، لكن مرّ وقت طويل حتى تمكن عاصي من إعادة تأهيل نفسه ليعود إلى حياته الطبيعية.
"المحطة"، كانت أول عمل قُدم بعد شفاء عاصي، وقد لحن فيها أغنية "ليالي الشمال الحزينة"، وكانت أول أغنية لحنها بعد مرضه، وقدم منصور وزياد الرحباني وفيروز تحية إلىعاصي رحبانيبأغنية "سألوني الناس" الذي يقول مطلعها: "سألوني الناس عنك يا حبيبي كتبو المكاتيب وما أخدها الهوا بعز علي غني يا حبيبي لاول مرة ما منكون سوا"، وتأثر الجمهور كثيراً بهذه الأغنية التي تشرح وتتكلم عن غياب عاصي الحلاني.
قدم الأخوان رحباني عام 1972 مسرحية "بترا"، وعام 1974 مسرحية "لولو" من بطولة فيروز، وعام 1975 قدما مسرحية "ميس الريم" من بطولة فيروز أيضاً.
في نهاية السبعينيات، بدأت المشاكل في المسيرة الرحبانية، وأفضت في النهاية إلى الانفصال التام بينفيروزوزوجها وأخيه عام 1979، لتبدأ مسيرتها المستقلة.
وفاة عاصي ثم منصور
إستمر الأخوان رحباني فقدما مسرحيتي "المؤامرة مستمرة" عام 1980، و"الربيع السابع" مع رونزا عام 1984، لكن صحة عاصي بدأت بالتدهور سريعاً، ودخل في حالة غيبوبة، إلى أن جاء يوم الحادي والعشرين من حزيران/يونيو عام 1986، ففي صباح ذلك اليوم، لفظ عاصي أنفاسه الأخيرة. وبهذا إنتهت القصة المشتركة للأخوين رحباني، لكن ليس الميراث الذي خلفاه، والذي سوف يعيش طويلاً على مدى الأجيال.
توقف منصور الرحباني عن نشاطه الموسيقي لمدة عام، متأثراً برحيل عاصي. وفي عام 1987 تابع المشوار منفرداً ثم مستعيناً بأولاده مروان وغدي وأسامة، وأنتج العديد من المسرحيّات التي عُرضت في مسارح لبنان وسوريا ودبي وعمان وتونس ومصر وأبو ظبي.
في عام 2017، أطلقت فيروز أغنية "لمين" بمناسبة مرور 31 عاماً على رحيل زوجها ورفيق دربها الفني، من تأليف ابنتها ريما، وصدرت ضمن مجموعة غنائية مهداة لزوجها الراحل بعنوان "ببالي".
توفيّمنصور رحبانيفي 13 كانون الثاني/يناير عام 2009. واليوم يبقى صدى أنغام عاصي ومنصور رحباني يصدح في عقول وقلوب ووجدان من أحب هذين العملاقين، اللذين سطّرا لوطنهما ملاحم شعرية وموسيقية وأساطير.