من الإطلالة الأولى له برزت "خطوات الملك"، وحتى في أدواره المسرحية العادية، لم تغب خطوات الملك، ذلك أن الممثل المسرحي زياد أبو عبسي كان ملكاً في الحضور والتعبير والفعل والقول. أعمال الفنان زياد الرحباني الشهيرة تشهد لزياد أبو عبسي على هذه الخصوصية، وربما، والأرجح أن حضور أبو عبسي في مسرحيات الرحباني، أعطاها أكثر بعدها الدرامي أو الكوميدي.
تميزت خشبة المسرح اللبناني الحديث بشخصيات فنية مبدعة قديرة لا يمكن حصرها بسرعة، إلا أن إحدى هذه الشخصيات لا بد أن يلمع اسمها فور ذكر المسرح اللبناني ورواده. إنه زياد أبو عبسي الذي حضر على الخشبة حضور الوحش الهادئ.
نشأة زياد أبو عبسي
ولد زياد أبو عبسي في 5 أيار/مايو عام 1956، في مدينة صيدا 1956، وهو ينتمي الى عائلة أصلها من بلدة راشيا الفخار. ويقول أبو عبسي عتن طفولته" "كانت طفولتي هانئة وطيبة ولطيفة جداً... كنا نتمشى كثيراً في الأماكن والحانات والشوارع، ونمضي أمسيات ساحرة عند درج الكنيسة الإنجيلية على طريق المية ومية في ضواحي مدينة صيدا".
زياد أبو عبسي تلميذ المدرسة الإنجيلية، يعترف بأنه كان يخاف من بعض المواد العلمية في دراسته: "أكره الرياضيات"، لكنّه صريح أكثر بالبوح حين يقول: "لقد قرأت كتاب (أصل الأنواع) لداروين، و(جمهورية أفلاطون) وكنت في الرابعة عشرة من عمري".
ويضيف: "كنت أجمع مصروفي العائلي (الخرجيّة)، وأستقل الباص من صيدا إلى ساحة رياض الصلح في وسط بيروت، وكم اشتريت الكتب من بائع يراعيني في السعر لصغر سني". في ذلك العمر اليافع المتدفق، بدأت تتكوّن ميول الصبي الحالم. وفي موازاة القراءات الفلسفية، بدأ محاولاته التمثيلية الأولى في حضن "جمعية كشاف لبنان"، التي انتسب إليها. ويعترف زياد أبو عبسي قائلاً: "حتى اليوم، لا تزال السهرات حول النار في المخيّم، حاضرة في ذاكرتي ولم تفقد رونقها، ما زالت نابضة في ذاكرتي كأنها تحدث اليوم أو غداً".
ثمة ظروف أملت على زياد أبو عبسي خطواته الأكاديمية الأولى. في عام 1974، التحق بقسم المحاسبة والإدارة في "الجامعة اللبنانية – الأميركية"، لأنّ مجموعه في البكالوريا خوّله ذلك، ولأنّه اختصاص سيتيح له إيجاد عمل بسهولة وكسب المال، لكنّ سنوات الأرقام والمحاسبة لم تمرّ من دون مسرح وتمثيل.
وشارك زياد أبو عبسي في مسرحية "فينيانوس بالضيعة" من تأليف الراحلة روز غريب، وكانت له نشاطات في المسرح الجامعي.
اللقاء مع زياد الرحباني
اللقاء المبكر بين زياد أبو عبسي وزياد الرحباني استمر طويلاً وأثمر ذلك اللقاء تعاوناً طويل الأمد بين الاثنين، كانت أولى ثماره أداء أبو عبسي دور هارولد في "بالنسبة لبكرا شو" عام 1978. في العام نفسه، التحق زياد أبو عبسي بقسم المسرح في "الجامعة اللبنانية – الأميركية". هناك، قام بتجربته الكتابية الأولى عام 1979، وكانت مسرحية "الشمع". اتخذ العمل منحىً فلسفياً في طرح مبدأ التشكيك، حاملاً البذور الأولى لمشاغل زياد أبو عبسي، التي سترسم لاحقاً تخصّصه في الفلسفة.
وشارك زياد أبو عبسي في غالبية أعمال زياد الرحباني المسرحية، مثل "فيلم أميركي طويل" (1980)، وإسمه ارتبط بشخصية "أبو الزلف"، التي أداها باتقان في مسرحية "شي فاشل" (1983)، إلى "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993) و"لولا فسحة الأمل" (1994).
ويقول زياد أبو عبسي عن تلك التجربة الطويلة مع زياد الرحباني: "رغم أنّ طريقة زياد الرحباني تختلف عن طريقتي، استمتعت بالعمل معه انطلاقاً من التزامي مبدأ الولاء للكاتب".
وكانت لزياد أبو عبسي مشاركات مسرحية أخرى، وتجارب مسرحية مع مخرجين آخرين، مثل الراحل يعقوب الشدراوي في "جبران والقاعدة" (1981)، وربيع مروة في "المفتاح" (1996)، وفيصل فرحات في "سقوط عويس آغا" (1981)، وأخرى تلفزيونية مع المخرج رفيق حجار، إلا أن العمل المسرحي في الإطار الجامعي، الذي انكب عليه منذ عام 1986، حين بدأ تدريس مادة المسرح في الجامعة اللبنانية - الأميركية، كان الأكثر غزارة.
إلتحق زياد أبو عبسي، في موازاة مسيرته المسرحية، بقسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1982. وتابع الدراسة في الولايات المتحدة، حيث التحق بجامعة هيوستن، ابتداءً من عام 1983 لدراسة الفلسفة والمسرح. وحاز شهادة الماجستير بعدها بثلاث سنوات، قبل أن يعود إلى التدريس في بيروت.
ويتحدث زياد أبو عبسي عن "المغامرة" الذي انطلق بها وقاربها ووصلت به الى اكتشافات ومنها: "أن المسرح التراجيدي ما زال يستقطب المشاهدين من خارج الحرم الجامعي".
وفي عام 2017 أصدر زياد أبو عبسي كتاباً بعنوان "صفحات على جدار الزمن/ وجدانيات".
الصمت الصاخب
في عام 1992، حصل أبو عبسي على منحة بحث متقدم من مؤسسة Fullbright، سافر على أثرها إلى الولايات المتحدة مجدداً ليتعمّق أكثر في المسرح الشكسبيري. وبعد عودته إلى بيروت، تفرّغ لتقديم شكسبير على مسرح الجامعة، وكانت المحصلة: "كما يحلو لك"، و"الليلة الثانية عشرة"، و"زوجات ويندسور الفرحات"، و"ريتشارد الثالث" و"ماكبث".
يعترف أبو عبسي بأنه يعيش هاجس الوعي الصامت، ويقول: "المسرح هو الفعل الأقرب الى الصمت. المسرح بالنسبة إلي هو فن الظهور الصاخب، ورغم هذا الصخب ثمة صمت دفين يظهر في العيون والأجساد المتحركة على الخشبة".
وفاة زياد أبو عبسي
في المسرح يموت الممثلون ثم يعودون إلى منازلهم. لكن زياد أبو عبسي رفض أن يفرّق بين الخشبة والحياة، فرحل وحيداً في 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2018 بعد صراع مع المرض، مثل الأبطال التراجيديين الذين أحبّهم. أسدل الستارة مبكراً على حياة فريدة قوامها الاحتجاج، بأشكال مختلفة أهمّها المسرح.