كركلا....الاسم الذي انطلق منذ خمسين عاما، والذي اطلق مدرسة فنية بذاتها، طبعت حقبة من تاريخ الفن اللبناني وما زالت تُتحف هذا الفن بأسمى وأرقى أشكال الفن والوانه، حاملة الراية من الاب عبد الحليم كركلا ومعه، الى الابناء، فبرع ايفان كركلا وأبدع في اظهار اجمل اللوحات الفنية وايصالها للناس بأفضل صورة واجمل وارقى شكل واخراج ، فيما تخطت إليسار حدود السموّ لترسم أجمل الصور واللوحات على الاجساد التي تتمايل طيّعة امام دروسها ولوحاتها وازيائها.
في مهرجانات بيبلوس هذا العام، تألقت كركلا بأبهى صورها في عملها الجديد "فينيقيا الماضي الحاضر"، الذي حضرته المئات الآتية شغفا وتعطشا لحضور ما يملأ العين ويغني البصر ويرضي الذوق الفني الرفيع، وفي طليعتهم شخصيات سياسية وعسكرية واعلامية ومن المجتمع المدني.
موقع الفن كان هناك لحضور المناسبة، والتقى ايفان كركلا قبل وقت قليل من انطلاق العرض، وكان سؤالنا الاول له عن شعوره في هكذا وقت؟ فابتسم وقال:
"سؤال كثير حلو، لان الشعور شعور غريب في خوف وفرح مع بعض"! شعوري كمن يمشي على الحبل اذا وقع الى اليمين يقع الخوف منه واذا وقع الى الشمال يقع منه الفرح، هناك حماس قوي وفرحة كبيرة كوننا لاول مرة في مهرجانات بيبلوس. ونشعر بعد سنة من التحضير للعمل، ان اليوم أتت ساعة الحقيقة، فبقدر ما نحضر ونستعد ونعمل ومع كل الخبرة، هناك على الدوام لحظة حقيقة وخصوصا لدى الفنان، النجاح ليس دائما واذا نجح الفنان مرة هذا لا يعني انه ناجح على الدوام.
ولكن انت تقول ذلك بعد كل سنوات الخبرة التي اكتسبتموها في هذا المجال؟؟!
هذا الشعور يساعدنا كثيرا، ومن المهم ان يتمتع الفنان ببعض التواضع وان يطغى على "الانا" لان في عالم الفن انتصارات كبيرة تعطي الانسان قوة مختلفة، ولكنه يجب ان يبقى متواضعا، نحن نشعر بفرح كبير وبالسعادة لان نكون في هذا المهرجان الكبير العريق والعالمي، مهرجان وسّع بيكار لبنان الثقافي على مدى سنوات وعلى مدى كل الفنانين الذي مروا من هنا. ان الشعور حين نتحدث الآن والناس يمرون الى الداخل استعدادا للحفل، هذا يشعرني رويدا رويدا ان ساعة الحقيقة باتت قريبة ، احب هذه اللحظة كثيرا و"بنطرا مناطرة".
هذه لحظة القطاف.....
بالضبط.....هي كذلك.
هل الشعور عند تقديم عرض في لبنان يختلف عما يكون عليه حين تعرضون في الخارج على مسارح كبيرة وعالمية ومهمة؟
ما من شك في ذلك، والاكثر ان الامر ليس العرض في لبنان بل يكمن في العرض بمدينة جبيل بحد ذاتها، المدينة المهمة التي استوحينا منها فكرة العمل. ومن هنا نريد اطلاق الافتتاح الاول لفكرة "فينيقيا الماضي الحاضر". العمل اليوم فيه ملامح فينيقية كثيرة وكذلك ملامح من بيبلوس ان من الماضي او من الحاضر. فينيقيا الماضي يدخل ويغوص في اساطير ماضي الفينيقيين وتاريخهم، وفينيقيا الحاضر هو تراثنا واجدادنا وفولكلورنا وعاداتنا وتقاليدنا، اي انه بالمحصلة هويتنا. والانسان بلا هوية يضيع والثقافة تلعب دورا هاما جدا في حياة الانسان ليس فقط لتحافظ على هوية الانسان بل ان تجعلها تبقى وتستمر من جيل الى جيل وان نعرف ملامحها. لان اليوم فولكلورنا في الضيع اللبنانية بات يضيع منا وهذا امر مؤسف جدا، وكركلا تلعب دورا صغيرا في هذا الموضوع لكي تحفظ هذا الفولكلور وتُمسرِحه على المستوى العالمي لكي تقدمه ليس فقط في لبنان بل على اهم مسارح العالم ايضا.
لن نطيل عليك الحديث اكثر كي تتابع اهتماماتك المواكِبة لاقتراب العرض، ولكن يهمنا ان نبارِك لك بمولودك الجديد، هل تتوقع له ان يخطو ايضا خطوات "كركلا" او انه سيختار مجالا آخر برأيك؟
(يضحك)، العالم الذي نعيش فيه هو عالم صعب، كركلا تأسست في العام 1968، وعبد الحليم كركلا حين أسسها تحدى العالم الذي يوجد فيه لبنان وبعلبك و العالم العربي، تحدى الزمان والمكان اذ لم يكن يتجرأ احد في حينها على الحديث عن المسرح الراقص او التطرق اليه، وهو كان شيئا لا قيمة ثقافية له، ولكن خلال 50 عاما استطاع ان يرفع اسم كركلا وان ينشر مستوى المسرح الراقص وان يجعله مسرحا ثقافيا وان يشكل له هوية يفتخر فيها اللبنانيون وكل العالم العربي، هذا المستوى من المسرح العالمي. انا واليسار اليوم نكمل هذه الرسالة ونحافظ على الامبراطورية التي أوجدها عبد الحليم كركلا. ولكن باعتقادي ليست فقط الاستمرارية هي المهمة وانما التطور، وما يأتي من الاجيال الجديدة، انا واليسار طوّرنا وسوف ننتظر لنرى ما اذا كان اولادنا سوف يخوضون هذا المجال، لن اجبرهم ولكن كما انا تربيت في هذا الجوّ، هم ايضا سيتربّون فيه، وبالتالي سوف يكتسبونه تلقائيا، (مع ابتسامة عريضة).
وايضا على هامش حفل كركلا، التقينا الشاعر نزار فرنسيس الذي قال ان هذا هو لبنان الذي نريده والذي نتمنى ان يبقى هكذا على الدوام، حين تكون هناك مهرجانات من هذا النوع وبهكذا مستوى، تشعر الناس حقا ان البلد بألف خير لبنان ونتمنى ان يبقى كذلك على الدوام.
وما اذا كان يقصد مسرح كركلا اينما عرض اعماله؟ قال انه يهتم كثيرا بحضورهم لان كركلا هي رمز من رموز هذا البلد، اسم عريق يفتخر فيه كل لبناني اسم جامع لكل لبنان وعابر لكل المناطق والطوائف، وبات قلبنا يكبر بكل اسم لبناني جامع وعابر للطوائف مثل كركلا، وما من شك لديّ انه لا يمكننا ان نجد في لبنان من لا يُجمعون على ان كركلا هي رمز وطني حقيقي.
كما التقينا ايضا الممثل علي الخليل، الذي عبّر عن فرحته لوجوده في هذا المهرجان لحضور كركلا هنا في جبيل مدينة الانسان. "لقد رافقت كركلا منذ ستينيات القرن الماضي، منذ ان كان يعمل في لندن قبل تأسيس هذه الفرقة، رافقت هذه العائلة منذ زمن طويل الا انني لم اعمل معهم للاسف الشديد، مع انني بالطبع كنت اتمنى ذلك لانني في الاساس راقص باليه وكل اعمالي في الاساس استعراضية، ان مع سلوى القطريب، الاخوين الرحباني، غدي واسامة ومروان الرحباني، كل اعمالي استعراضية حتى انني شاركت مع ملحم بركات وغسان الرحباني في بعلبك، ولكن لم يكن لي نصيب المشاركة مع كركلا التي تمتلك مسرحها الخاص وجوّها الخاص الذي احبه كثيرا، هم كسروا قواعد اللعبة الكلاسيكية وادخلوا على مادة الرقص مدرسة جديدة أسّست للدبكة اللبنانية في الستينيات وما بعدها. لا شك في انهم تاريخ في ذاته، هم لا يتغنون بالكلمة او بكل ما مر عليه الزمن بل يعتمدون على التعبير والرقص، فـ "طريق الحرير"، مثلا التي عُرضت في بعلبك، هي ملحمة وهي من اجمل الاعمال التي حضرتها في اميركا ولندن وبرودواي وباريس واهم الاماكن في العالم، انها من اجمل ما حضرت، وآمل ان يكون هذا العمل ايضا على غرارها.
وبعد احاديثنا ولقاءاتنا، دخلنا الى المدرج واخذنا اماكننا فيه، لتنطلق "فينيقيا الماضي الحاضر"، في تمام الساعة الـ 9:10 دقائق، مسرح كبير في خلفيته شاشة عملاقة هي استكمال للمشهدية على المسرح، ليطل الجنود مواكبين الملك الفينيقي بتاجه الكبير، ترافقه الفرقة برقصاتها التعبيرية وزيّها المنقول عن تلك الحقبة من الزمن، بما يمثل فينيقيا الماضي حيث تمر حروف الابجدية على الشاشة للدلالة على الارتباط بين فينيقيا والابجدية التي صدرت من هناك الى العالم.
"وجايي نوح حامل معو الابجدية هدية من لبنان الارز يلي من حدو بمر الزمان ويلي معو منبني سوا حضارة الانسان". كلام يتردد مرافقا الاداء الراقص وخلفه على الشاشة البحر وفينيقيا.
ثم ينتقل العصر الى زمن آخر يجسد تاريخ الضيعة اللبنانية حيث يُستبدل تاج الملك بالـ" القلوسة"، ويصبح المشهد مع مشهد القرية اللبنانية التقليدية بناسها وطبيعتها وبيوتها ومختارها وأهاليها.
فيحضر الشيخ فنيانوس والاهالي ومشاكل الفُرقَة التي لا تنتهي بين حارة راس الجرد وحارة الحي العالي، والتي حين تقع تُفرّق بين الابناء، ليتفق الجميع على ان تزويج ابنة الست هندومي من فضلو ابن الضيعة الاخرى سيضع حدا للفرقة والتناحر. ولكن بدلا من حل المشكلة، يكسر هذا القرار قلب ابنة هندومي وحبيبها من القرية الثانية، فيلتقيان في الخفاء وامها تمنعها عن رؤيته ولكن من دون جدوى، وتشعر الام بالندم حين ترى فضلو وتُصدَم بشكله، الا انها لا تريد ان تفقد ابنتها هذا العريس الغني "اللّقطة"! ولو كان غير وسيم.
اما كل التحركات التي تحصل في الضيعة المُعلَنة منها وتلك التي تجري في الخفاء، فيرصدها "هَبَلون"، بحكمة وخفة ظل تكتمل بملابسه المضحكة البعيدة عن الذوق الرفيع.
وحين يُفرَضُ الزواج على ابنة هندومي وتشتري لها امها فستان الزفاف، تهرب مع حبيبها، ولكي لا يقع الخلاف مجددا بين الضيعتين تتزوج هندومي من والد فضلو!
اما الختام فيحمل مفاجأة من خلال المزج الذي يحصل بين الماضي والحاضر...
كل الكلام لا يُغني عن مشاهدة هذا العمل والغوص في معانية وتلقف الرسالة منه، والاهم الاهم، التمتع بمشاهدة عالم الاجساد المتمالية بخفة بالوان قوس القزح راسمة امام الحاضرين اروع اللوحات الفنية، التي تبث روح الفرح والامل والتفاؤل في النفوس...دامت هذه الهمة التي لا تعرف الكلل ولا الملل، دام هذا الفكر الذي يحوّل كل الاشياء الى رموز فرح تنشر الطاقة الايجابية اينما حلّت.
وما قد لا يعرفه البعض، ان هذا العمل هو من بطولة الفنانة هدى والفنان جوزيف عازار والفنان رفعت طربيه المواكب الدائم لاعمال كركلا، اضافة الى نخبة كبيرة من الممثلين نذكر منهم غابريال يمين، أسعد حداد، الفنان والمطرب جاد القطريب وآخرين.
ويجدر في الختام، ان نذكر ان العرض أثّر ايجابا بالحضور لدرجة ان عددا من الشخصيات صعد الى المسرح لتهنئة عبد الحليم كركلا وابنه إيفان وابنته إليسار على هذا العمل كتحية شكر وتقدير وامتنان، نذكر منهم الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان، قائد الجيش السابق جان قهوجي، المدير العام للامن العام عباس ابراهيم، السيدة الاولى السابقة منى الهراوي، الوزيرة السابقة ليلى الصلح حمادة، وآخرين.