ما كان ينقصنا في عالمنا المتعثّر هذا، هو المزيد من القتال والحروب والأزمات النفسيّة. وكأن المشاكل أصبحت وباءً ينتشر بسرعة سريان الدم. ما كان ينقصنا في هذا الزمن المتألّم، هو أن نحوّل مناسباتنا السعيدة إلى ملاعب للمنافسة الشريفة وغير الشريفة في معظم الأحيان. فبدل أن نتشارك شهر رمضان المبارك بالإبتسامة والجمعة العائلية، يُصرّ أصحاب المحطات التلفزيونيّة أن يُعوّضوا عن قلة الطعام بكثرة المال في جيوبهم، وأن يُتخموا حساباتهم المصرفية بموائد الإعلانات وحلوايات الدعم. فلنسلمّ جدلاً أن المسلسلات في شهر رمضان المبارك هي مبادرة جيدة، تساعد الناس على التمتّع بلحظات سعيدة بعيداً عن همومهم اليوميّة، ولنفترض جدلاً أن المسلسلات أصبحت جزءًا من العادات الرمضانية ، أليس من المفترض أن تُشبه هذه المسلسلات روح هذا الشهر الفضيل، وأن يكون الهدف منها معنوياً، يساهم في إضافة بعض المرح والتسلية للمشاهدين؟ و إن كان هذا ما يحصل، فلماذا لا يُؤخذ بعين الإعتبار أهميّة المسلسل من حيث المعنى والمضمون، من حيث السيناريو والإخراج، ويُقاس ذلك بنوعيّة العمل وليس بنسبة المشاهدة التي أصبحت الشغل الشاغل على مكاتب مدراء المحطات التلفزيونيّة، والمسبب الاكبر للأرق الليلي لهؤلاء. فلماذا هذه الحرب على نسبة المشاهدة؟ وهل نسبة المشاهدة تقاسُ النجاح؟ برنامج الأطفال لا يحظى بنسبة مشاهدة عالية، فهل تستطيع المحطات أن لا تضمّ أيّ عملٍ موجّهٍ للأطفال؟ الفقرات الثقافية لا تحظى بنسبة مشاهدة عالية فهل من داعٍ لعرض أيّ عملٍ ثقافيّ؟ عندما يظهر أيّ شخصٍ على التلفزيون ويبدأ بسرد الفضائح، فسيحظى طبعاً بأعلى نسب مشاهدة، فهل نفتح لأمثاله الكاميرا ليؤمن لنا نسبة مشاهدة عالية؟
اذاً ليست بنسبة المشاهدة وحدها تحيا المسلسلات، التي تحيا بنوعيتها وتنوّعها. هل تأخذ المحطات بعين الإعتبار نوعيّة المشاهد من حيث التقسيم الفئوي والذي يُعرف بعلم التسويق بالـ segmented targeting؟ هل تخصص المحطة مسلسلاً يستهدف فئات المراهقين مثلاً؟ هل يُخصص لكبار السن مسلسلاً يُشبه طباعهم وأنماط تفكيرهم؟ هل يهمّ مدير أي محطة تلفزيونيّة أن يشتري مسلسلاً لا يحظى بنسبة مشاهدة عالية وإنما بنسبة نوعيّة تؤمّن للمحطة إستهدف لفئة خاصة والتي تُعرف بالـNiche ؟ كيف تُدار عملية إختيار المسلسل؟ هل فقط من خلال سياسة "النكايات" السائدة هذه الايام ، فالمنتج والكاتب الذي حظى بنسبة عالية من المشاهدة السنة الماضية على التلفزيون المنافس، ندفع له أضعاف تلك السنة فقط لنضمّه إلى باقتنا الرمضانيّة من دون أن نأخذ بعين الإعتبار الظروف التي لائمته السنة الماضية والتي ساعدته في حصد تلك النسبة العالية والتي يُمكن أن لا تلتأم لصالحه هذه السنة؟
أسئلة تُطرح ويضافُ إليها العديد من الأسئلة الأخرى، فسوق الإعلانات أصلاً في الحضيض، وما تبقى منه إختار أن يلجأ إما إلى التأثير العربي في الإعلان أو ما يُسمى Pan Arab Effect من خلال عرضه للإعلان عبر تلفزيون عربي، أو إلى ذكاء الإعلام الجديد ووسائل التواصل الإجتماعي الأكثر أهميةّ شاء من شاء و أبى من أبى. فلم كل هذا التقاتل على فُتات الإعلانات، التي مهما كثُرت فلن تفلح في تسديد فاتورة سياسة "النكايات" بين المحطات؟ والذكي هو من يعرض مسلسله خارج النطاق الزمني لشهر رمضان المبارك، فيكون قد إستثمر في أرضٍ خصبة Greenfield investment ، وقطف الموسم جيداً. إن مسلسلات رمضان نقطة إضافية في إناء الخلافات والحروب، ومسببُ لمشاكل كنا بغنى عنها، فهل فاقد الشيء يمكن أن يُعطيه، ويأتي يوم يمنحنا فيه الإعلام سلاماً نرجوه؟