بين ثنايا فكره المتمرد تقبع موسيقى ساحرة تفيض بالحياة وتتغنّى بالمقامات... موسيقى مختلفة، معاصرة وحديثة ترشفها آذاننا حتى الرمق الأخير وتنتشي معها أرواحنا عشقاً وفرحاً... ألحان تحمل ذخيرة علم وعمل وغربة وخبرة لترشح عبق أشجار الصنوبر المحيطة بمنزله حيث يمتزج الحلم مع الواقع والطبيعة مع الموسيقى.
في دارته في "بتخنيه"، إلتقينا المؤلف الموسيقي والأستاذ المحاضر في المعهد العالي للموسيقى وجامعة البلمند د. جمال أبو الحسن وكان هذا الحوار .
في ظل الوضع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي الراهن في لبنان، كيف تتمكن من توفير الجو المناسب لتأليف الموسيقى؟
لا شك بأنني أتأثر بالوضع في لبنان أو في أي مكان أتواجد فيه، لكنني أتعمد عزل نفسي عن كل ما يحدث حولي، وبالتالي أتأقلم معه وأؤلف بغزارة حتى في ظل غياب الأمل عن إمكانية تقديم هذه الأعمال في حفلات ضخمة أو مشاريع هامة. منزلي الجبلي يقبع في منطقة توحي بالتأمل وتسمح لي بالتفكير في مواضيع موسيقية جديدة.
هل أنت نادم اليوم على قرار مغادرة أميركا والعودة إلى لبنان؟
ليس قراراً نهائياً، وأقوم بزيارتها بين الحين والآخر للمشاركة في بعض الحفلات والمهرجانات. نادم على أمر واحد يتعلق بتخصصي الرئيس ألا وهو الموسيقى التصويرية، بخاصة السينمائية منها، فقد جاء قرار العودة في الوقت الذي بدأ إسمي ينتشر هناك بعد عملي في أكثر من فيلم. إعتقدت حينها أنني سأتمكن من خلال الانترنت من إيصال أعمالي إلى العالم كله وأن تواجدي في بلدي سيكون أفضل من البقاء في أميركا ، لكن توقعاتي خابت عندما وجدت الكهرباء مفقودة هنا والانترنت بطيء بشكل لا يحتمل، ناهيك عن عدم تمكني من العمل بالشكل الكافي في مجال الموسيقى التصويرية الذي أحبّذه كثيراً.
لكنك سبق وأن خضت التجربة في لبنان. أليس كذلك؟
كانت تجربة وحيدة في فيلم "دخان بلا نار" مع المخرج سمير حبشي ومن بطولة سيرين عبد النور وخالد النبوي، لكن وللأسف لا تمنح الموسيقى التصويرية عندنا الاهتمام الذي تستحقه إنتاجياً مقارنة مع أميركا مثلاً.
في الأوسكار ثمة جائزة خاصة للموسيقى التصويرية...
إلى جانب ذلك، يتمّ رصد ميزانية ضخمة كونها ركناً أساسياً في أي عمل سينمائي.
ألهذا توجهت نحو ممارسة التعليم الأكاديمي؟ وماذا تخبرنا عن هذه التجربة؟
لم يخطر ببالي يوماً أن أمارس مهنة تعليم الموسيقى. بعد عودتي إلى لبنان، وعلى الرغم من أن التعليم ليس من هواياتي، لبّيت طلب رئيس المعهد العالي للموسيقى آنذاك د. وليد غلمية إذ لمست حاجتهم لتدريس الموسيقى الإلكترونية بحكم عدم وجود متخصصين بها هنا، وبالتالي ضرورة خدمة أبناء بلدي من خلال نقل المعلومات التي تعلمتها في الخارج إليهم.
الحسّ الوطني كان الدافع الأساس؟
كان لبنان حينها في مرحلة الإعمار والإزدهار وكنت عائداً إليه بعد 22 سنة أمضيتها في بلاد الاغتراب. عندما غادرت لبنان كنت لا أزال يافعاً وأخذت أراقب من بعيد بألم وحرقة ما خلّفته الحرب من دمار وخراب، لذا كان من الطبيعي أن يتولّد لديّ الشعور بضرورة المساعدة ضمن المجال الذي أجيده.
أأنت راضٍ عما قدمته في لبنان لغاية يومنا هذا؟
طبعاً، فأنا أقدم أعمالاً هامة جداً حتى وإن لم تحصد النصيب الكافي من الشهرة ولا أزال أتوقع المزيد من الفرص. أنا راضٍ بيني وبين نفسي لأنني سنوياً أنتج ما لا يقل عن 3 أو 4 أعمال سيمفونية ضخمة، وكذلك على صعيد الموسيقى الإلكترونية أقوم بتأليف موضوع متكامل لحفل ضخم (سمعي بصري) وضمن إطار جديد غني بالمشهدية والتقنيات واللايزر والإضاءة حيث ترتبط الموسيقى وتتناغم مع الصورة والضوء والحركة.
أنت رسام مبدع وتجيد الفنون التشكيلية على أنواعها كالنحت مثلاً كما تتقن الـGraphic Animation. هل تسخّر كل هذه المواهب لصالح الموسيقى؟
الموسيقى هي الأهم. أعتمد في حياتي أسلوبين هما: إما أن أرسم لوحة أستقي من وحيها لحناً وإما العكس، ويهمني إيجاد التوزان بين المشهدية والنغمة الموسيقية. على المسرح عندما أعزف بمرافقة المشهدية أشعر وكأنني أرسم لوحة في الوقت ذاته وعلى شاشة ضخمة جداً حيث تختلط مئات الألوان السيمفونية دون التقيد بألوان الرسم الزيتية أو المائية أو غيرها بالإضافة إلى الحيوية والحركة والتفاعل الفوري.
كيف يتلقف الجمهور المحلي هذا النوع من الموسيقى الصعب إلى حد ما؟
خلال الصيف المنصرم، أجريت تجربة لإختبار الجمهور من خلال حفل موسيقي ضمن مهرجان دوما فأصبت بالصدمة. في هذا المهرجان، الذي كان شعبياً بامتياز وفي إحدى أجمل القرى اللبنانية، شكّلت البرنامج من 30% من ألحاني الخاصة وهي تعتبر موسيقى جديدة وصعبة تحتاج إلى الكثير من التفكير لفهمها والغوص معها، بالإضافة إلى مشهدين من الفلكلور اللبناني (أحدهما تحية إلى زكي ناصيف)، كما رافقني 75 عازفاً والكورال فتفاجأت بتفاعل الحضور مع كل المعزوفات حتى تلك التي يسمعونها للمرة الأولى وليسوا معتادين عليها. وبنتيجة الإختبار خرجت بفكرة هامة ألا وهي أن المتلقي يتفاعل مع كل عمل جميل ويمسّه مهما اختلفت الموسيقى أو الآلة المستخدمة.
هل أنت مستبعد من المهرجانات اللبنانية الدولية؟
لست مستبعداً بل محبوباً من قبل القائمين عليها وثمة إتصالات كثيرة بيننا.
يحبونك ويجلبون فنانين غربيين ويغضّون النظر عن أمثالك من المبدعين اللبنانيين... لماذا يستدعى يانّي أكثر من مرة ويغيّب جمال أبو الحسن؟
الفرق بيني وبينه أنه أكثر شهرة مني و(بيبيع أكتر)، والمهرجانات تبحث عمّن يبيع بطاقات أكثر... وزارة السياحة تدعم المهرجانات ومن هنا السؤال: لماذا لا يتضّمن برنامج المهرجانات حفلاً مدعوماً من الوزارة وتخفّض أسعار البطاقات فيه؟ بهذه الطريقة ستتاح أمام الجميع فرصة مشاهدة الحفل والتمتع بعمل فني وثقافي، إذ ليس من الضروري أن يكون كل شخص شهير مبدعاً. الشهرة لا تصنع الإبداع. هناك فنانون لبنانيون يستحقون الدعم وينتظرون الفرص، ولا أتحدث عن نفسي فأنا والحمدلله أشارك في مهرجانات عدة في أوروبا وأميركا واليابان. لست لجوجاً ولا أقرع الأبواب ولو أردت المشاركة بالقوة أو (الواسطة) لفرضت نفسي ولكن هل تحتاج الموسيقى إلى "واسطة"؟ عيب!. معظم مدراء المهرجانات أصدقائي ويقدّرون عملي ، وعندما عدت من أميركا تهافتوا على تنظيم حفل لي، ولكن بعد إستقراري في لبنان بتّ "لبنانياً"... (يضحك ويقول: لبناني وبحكي عربي).
كل فرنجي برنجي...
الأمر غريب بالفعل... كان من المفترض أن أشارك العام الماضي ضمن مهرجانات الأرز وبعلبك وجبيل وبيت الدين وأهدنيات إلا أن طريقة عرض طلب المشاركة لم تكن مناسبة، ربما كانوا في حيرة من أمرهم في وقت لم أكن محترفاً في إيجاد الأسلوب المناسب لإقناعهم.
لمَ لا تسلّم أمورك إلى مدير أعمال محترف؟
بالفعل أنا بحاجة إلى مدير أعمال يتمتع بطلاقة اللسان ويدرك كيفية التسويق، يجيب على الرسائل الإلكترونية والأهم يواظب على الاتصال بالمعنيين يومياً، فأنا أجري إتصالاً واحداً وإن لم ألقَ جواباً أتوقف عن الاتصال نهائياً.
عندما كنت في أميركا كنت تتلقى طلبات كثيرة للعودة وإحياء المهرجانات في لبنان، واليوم بتّ "محلياً". هل يغلق اللبناني الباب أمام إبن بلده بإعتباره (منا وفينا)؟
نحن عكس العالم بأكمله. في النمسا مثلاً، يطلبون من المؤلف الموسيقي تحضير عمل لمناسبة رسمية ويمنحونه في المقابل بدل أتعاب ضخم إلى جانب تأمين كافة مستلزماته على مدى عام كامل ليتفرّغ للموسيقى، وإذا ما نجح العمل يبدأون بمساعدته للإنطلاق خارج البلد بينما في لبنان ينتظرون الفنان لينجح في الخارج ويصبح عالمياً فتتغيّر نظرتهم نحوه. غبريال يارد لم يكن معروفاً في لبنان ولم يطلبه أحد للمشاركة في المهرجانات حتى نال الأوسكار فتهاتفوا على تكريمه ويسعون جاهدين لدعوته إلى لبنان. شخصياً، لست حزيناً ففي أرشيفي مئات المشاركات العالمية، كما سبق وشاركت في بيت الدين والبترون وصور ووسط بيروت لكنّ ما أحضّره لبعلبك سيكون الحدث الأضخم عالمياً وبدأت العمل عليه منذ عشر سنوات تقريباً. مشاركتي ستكون قريبة بإذن الله ونحن نعمل على حلّ بعض العقبات البسيطة.
التكلفة الإنتاجية الضخمة التي تتطلّبها عروضك هل هي العائق أمام مشاركتك في المهرجانات المحلية؟
ربما، لا أنكر أن عرضي يحتاج إلى إنتاج ضخم إذ يتطلب فرقة موسيقية كبيرة وتقنيات خاصة مكلفة. جان ميشال جار، الذي قدّم عرضاً هذا العام في بعلبك، يعتمد نفس التقنيات المستخدمة في عرضي ولكن ذات أهمية أقل في مراحل معينة فهو يستخدم كمية كبيرة من اللايزر والالكترونيات وصولاً للإبهار إلا أن فحوى الموسيقى نفسها عادي وخالٍ من الإبداع... ومع هذا، فإنه شهير جداً ويتقاضى عن حفله مليون دولاراً أو أكثر، وفي المقابل عندما نطالب بالحصول على 200 ألف لقاء عمل ضخم يعتبرون المبلغ كبيراً لأن الإنتاج اللبناني لا يقابل بالسخاء كما يجب، بإستثناء كركلا ومسرح الرحابنة وفيروز.
زميلك شربل روحانا وضع منهجاً للعود. هل ستحذو حذوه؟
أجيد التعليم وكتابة المؤلفات الموسيقية لكني لست ضليعاً باللغة والكتابة... يضحك ويقول: (ما بعرف إكتب مكتوب بدك ألّف كتاب؟).
ماذا عن تحضيراتك الجديدة بعد ألبوم "ألوان سيمفونية"؟
بدأت التحضير لألبوم جديد سيتضمّن موسيقى إلكترونية برؤية جديدة وأصوات غير مسموعة سابقاً وبعيدة من التقليدية، كما أجهد على تحضير عملين للأوركسترا الفلهارمونية كعادتي سنوياً.