لا يرحل العظماء ولا يموت المبدعون بل يخلد اسمهم محفوراً على خشب الزّمن وعلى تراب المكان. هكذا الموسيقار ملحم بركات لا يموت ولن يموت، بل غاب عن صورة الجسد الفاني، وبقي متجذّراً فينا، في قلوبنا، وفي نفوسنا كما الأرز مجداً وإبداعاً وفنًا وشموخاً وهو أبو مجد. لن نبكي وفاتك، لكننا سنبكي عليك من كنت المدافع الأوّل عن الفنّ اللبناني والمضحّي بنفسه من أجله هو الذي كان صوته نشيداً للأغنية اللبنانية، وسنبكي لأننا فقدنا حارس الفنّ اللبناني والمدافع الأوّل عنه، سنبكي لأنك يا أبو مجد من كبار الملحّنين ولأنك آخرهم وبعدك فليصمت الملحنون، سنبكي ونبكي لأنّ لبنان فقد أحد جناحيه اللذين حلقا به عالياً.

هو الذي ولد في كفرشيما في جبل لبنان أرض العمالقة الفنانين الارض التي أنجبت فليمون وهبي الذي كان صديقه فحملت العود باكراً فكان صديقك الأقرب إلى قلبك. فعام 1942 كان يوماً مجيداً لكفرشيما للبنان وللعالم العربي وللعالم ككل. ظهرت موهبته الموسيقيّة منذ كان تلميذًا في مدرسة بلدته كفرشيما. وكان يقوم بتلحين بعض الكلمات من الجريدة اليومية وقام بغنائها في إحدى المناسبات المدرسية. ويؤكّد هو نفسه أنّ أول لحن وضعه كان نشيدًا لمدرستة في بلدة كفرشيما. وكان ملحم يستمتع بالغناء من جهة لعبد الوهاب، وأغاني أم كلثوم من جهة أخرى. اشتهر منذ صباه كمغنّ في بلدته، حتّى طُلب منه مرّة الغناء والعزف بين فصلَي مسرحية "جنفياف" التي كانت تُعرض في البلدة، فلفت انتباه الموسيقي حليم الرومي، الذي كان يسكن كفرشيما، فأثنى على موهبته وشجّعه. في مطلع شبابه طلب ملحم من والده ان يسمح له بدراسة الموسيقى، فكان جواب الأب:"هناك عبد الوهاب في الساحة وتريد ان تصبح فنانًا؟!" ومع ذلك ترك ملحم المدرسة وكان في السادسة عشرة من عمره وقرر الالتحاق بالمعهد الوطني للموسيقى، فانتسب إليه، دون معرفة أبيه، فكان يخبئ كتب المعهد في كيس ورقي يخفيه أمام مدخل منزله. درس ملحم النظريات الموسيقيّة والصولفاج والغناء الشرقي والعزف على آلة العود مدّة أربع سنوات في المعهد الوطني للموسيقى (الكونسرفاتوار)، وكان من بين أساتذته، سليم الحلو وزكي ناصيف وتوفيق الباشا.

ترك المعهد قبل إكمال دراسته، فنصحه فيلمون وهبة بأن يتوجه إلى مسرح الرحابنة وهكذا كان. انضم إلى فرقة الأخوين رحباني. لكنّه بعد أربعة أعوام، تركهما لكي يشقّ طريقه الفنيّة ويبني شخصيّته الموسيقيّة الطربية والتلحينيّة المتميّزة لما يمتلكه من موهبة في هذين المجالين. فكان يلحن في مسرحيات الاخوين رحباني وبرنامج ساعه وغنية الذي سجل في تلفزيون الأردن وكان على صداقة حميمة مع فيلمون وهبة ابن بلدته، فأثّر فيلمون عليه بلحنه الطربي ذي الطابع الشعبيّ الذي يصنّف ضمن خانة "السهل الممتنع". وكانا كلاهما يعشقان الصيد، وحياتهما ملىء بالبسمة والطرافة و"خفة دم" ينشراها أينما وُجدا. وعن التعامل مع الرحابنة، قال بركات: "ذات يوم قال لي فيلمون وهبي بالحرف الواحد: يا ابني أنت ولد موهوب لكن مع بيت الرحابنة لن تصل إلى الشهرة، إما أن تكون مكان نصري شمس الدين أو أقل منه، ولن يتركوك تتفوق عليه". أشار بركات إلى أن الرحابنة "كادوا أن يربطوني بعقد، لكني لم أقبل، أكملت مسرحية الشخص ورحلت، اتصلوا بي عدة مرات فقلت لهم أن مستقبلي ليس عندكم، انطلقت، لو لم أفعل هذا لما انطلقت ولم يكن هناك ملحم بركات". ويصف عمله مع روميو لحود مشبعاً بالحرية بينما عمله مع الرحابنة أكسبه الخبرة في الحياة وشجعه لأن يصبح فناناً.

أغنية "الله كريم" التي كتبها له الراحل توفيق بركات ولحنها له جاره الراحل أيضاً فيلمون وهبي رسمت اولى بدايات ملحم الفنية، كانت بداية مهمه لان صوته كان ممتلئ وكامل والبعض كان يتوقع ان وديع الصافي هو الذي يغني الله كريم . الا انه لم يقتنع بأغنية واحدة وعندما طالبهما بأغنية ثانية وكانت الأغنية الرائعة سافر يا هوا كلمات مصطفي محمود والحان فيلمون وهبي ، وبعدها تعرف إلى مارون نصر وقدم له أغنية «يا أسمر» بعد أن دفع له مبلغ 32 ليرة لبنانية مقابل الحصول عليها. يومها طلب المبلغ من والده فوافقه رغم انه لم يكن يشجعه على الغناء. في الثانية والعشرين من عمره شقّ ملحم طريقه في مشوار فني طويل تعليمًا ولحنًا وغناء ومسرحيات. فقد درّس العزف على العود، واشترك في الغناء في فرقة الرحابنة في عدد من مسرحياتهم الغنائية وقام ببطولة مسرحية "الربيع السابع"، وبدأ مسيرته التلحينيّة لعدد كبير من المطربين، نذكر منهم: وديع الصافي، صباح، سميرة توفيق، ماجدة الرومي، وليد توفيق، بسكال صقر، ربيع الخولي، أحمد دوغان، ميشلين خليفة، إلخ. وكانت أولى ألحانه، "بلغي كل مواعيدي" (ثنائي بينه وبين جورجيت صايغ)، ثم ألحان مسرحية "حلوة كتير" للمطربة صباح، ومن بينها: "المجوز ألله يزيدو"، و"صادفني كحيل العين"، و"ليش لهلق سهرانين".

أول عمل مسرحي قام ببطولته كان مسرحية "الأميرة زمرد" ومن ثمّ "الربيع السابع" مع الأخوين الرحباني، وبعد ذلك مسرحية "ومشيت بطريقي" ومسرحية "ومن الحب ما قتل" وشارك في أكثر من مسرحية مع الشحرورة صباح "الفنون جنون" و"حلوي كتير". كما وقف أمام فيروز في مسرحية "فخر الدين" ومع سلوى القطريب في مسرحية "زمرد". وخاض غمار السينما وقام ببطولة فيلم "حبي الذي لا يموت" مع الممثلة هلا عون . كما أحيا الحفلات فوق المسارح العربية والعالمية في فرنسا، وأميركا، وأستراليا، وكندا، وقرطاج (تونس) وجرش (الأردن)، وغيرها من البلدان.

لمّا لحّن أغنية "أبوكي مين يا صبيّه" للفنان وليد توفيق، كرّت بعدها السبحة وانطلقت شهرته من جديد، فقدّم: "علواه يا ليلى"، "عود يا حبيب الروح"، "يا لايمة ليش الملام"، "على بابي واقف قمرين"، إلخ.

يعتبر الشاعر نزار فرنسيس توأم روحه، فهو كتب له معظم كلمات أغانيه. واذا ما تطلب الأمر تعديل بعض هذه الكلمات فهو لا يتوانى عن القيام بذلك بكل طيبة خاطر من اجل عيني ملحم، كما حصل مثلاً في أغنية «جيت بوقتك» عندما قرر ملحم ان تحل كلمة «فرفح» مكان كلمة «فرَّح»، وكان له ما أراد، خصوصاً ان هذه الكلمة تذكره بابنه ملحم جونيور فهو كان يقول له دائماً: «بابا عندما اشاهدك على شاشة التلفزيون «بفرفح قلبي".

تزوّج ملحم بركات أولاً من السيدة رندا عازار وهي أم أولاده مجد ووعد وغنوة، ومن ثمّ من مي حريري التي أنجبت له ملحم جنيور والتي عاد وطلّقها.

ومن ذكرياته التي لا ينساها معايشته للراحل فيلمون وهبي، ابن بلدته كفرشيما، فهو رافقه كسائق خاص لاربع سنوات متتالية، فتعلم منه تبسيط الامور. اما النصيحة التي كان يرددها على مسمعه فكانت: «لا يتفلسف في التلحين». اما علاقته بالراحل حليم الرومي، والد المطربة ماجدة الرومي، فكانت اقل عمقاً من تلك التي ربطته بفيلمون وهبي. والمرة الاولى التي سمعه يغني فيها كانت بالصدفة عندما طلب أحد اقرباء الرومي من ملحم ان يغني للحضور في مسرحية «جنفياف» بين الاستراحة والأخرى، فأدى أغاني لمحمد عبد الوهاب مثل «يا بابور»، «احب عيشة الحرية». آنذاك أعجب الرومي بصوته. لا يحب ملحم بركات ان يستذكر طفولته كثيراً. تلك الايام تشعره بالحنين والحزن معاً. لا ينسى مثلاً رائحة الليمون التي كانت تفوح في كفرشيما في الربيع، كذلك صوت الفوتوغراف الذي كان مختار البلدة متمسكاً به كأنه جوهرة نادرة تنطلق منها اصوات العمالقة فيجلس ملحم مستمعاً شغوفاً بها. ملحم بركات يخشى الأستوديو أو بالأحرى لا يرتاح فيه، لذلك نجد له العديد من الأغاني المدرجة في ألبوماته مأخوذة من حفلاته الحيّة وليس من تسجيلات الأستوديوهات لانه يحب ان يحب ان يتفاعل الجمهور مع صوته لايف عبر المسارح العربية.

المعروف عن ملحم بركات ولعه الشديد بهواية الصيد. كان يؤلف مع الملحنين ايلي شويري والراحل فيلمون وهبي ثلاثياً معروفاً في هذا المضمار فلا يفترقون في مواسم صيد طيور«المطوق» و«الترغل» و«السمن». وكان يحلو للثلاثة ان ينتقدوا بعضهم بعضا ويروون الطرائف والنكات الخاصة بالصيادين أثناء قيامهم بهذه الهواية. ويروي المقربون من ملحم بركات تلذذه في تناول الاطباق اللبنانية العريقة كالكبة على انواعها والمجدرة والتبولة الا ان طبق الفول المتبل بالحامض والثوم يبقى الأفضل بالنسبة له خصوصاً عندما يشكل ختام المسك لرحلة صيد ناجحة.

لم يتوانَ ملحم بركات عن توجيه النقد للفنان غير الملتزم فهو حامل راية الأغنية اللبنانية اينما ذهب وعتبه كبير على المطربين الذين نسوا انهم من لبنان واعتقدوا ان "مصر هي بلدهم الاول والاخير" بحسب قوله.

من النجاحات التي عرفها أخيراً أغنية قدمها لماجدة الرومي بعنوان «اعتزلت الغرام» وأخرى لكارول صقر بعنوان «يا حبيبي تصبّح فيي»، الا ان معظم اغانيه بقيت عالقة في ذاكرة اللبنانيين حتى اليوم. بينها «على بابي واقف قمرين»، «العذاب يا حبي»، «احلى ظهور»، «حمامة بيضا» وغيرها. ويشير ملحم بركات في غالبية احاديثه الصحافية والمتلفزة إلى أن لكل لحن أغنية قصة. وهو يحب التلحين في الصباح الباكر أو عندما يكون خلف مقود السيارة أو على متن الطائرة. من الأغاني التي استوحاها من تلك الظروف «ابوك مين يا صبية لوليد توفيق»، «يا حلوة شعرك داريه» لغسان صليبا، و«حمامة بيضا» التي غناها بنفسه.

يُعتبر ملحم بركات مجدّدًا في الأغنية العربية واللبنانية وقيل عنه بأنّه "سابق عصره" إذ قدّم نماذج من الأغنية العربية الجديدة منذ ثمانينات القرن الماضي. أطلق عليه المرحوم الأستاذ جورج إبراهيم الخوري، عندما كان رئيس تحرير مجلّة الشبكة لقب "الموسيقار". ونال جوائز وأوسمة عديدة من دول ومؤسسات وجمعيات.

كما غنى ولحن كلمات للشاعر منير عبد النور منها:

• ومشيت بطريقي

• حلي عني

• يابا ناوي

• ايام السجيني

• حمامة بيضا

• شباك حبيبي

• شو بعدو ناطر

• جيت في وقتك

• يا حبي اللي غاب

• بعيدك يل إنت العيد

• موعدنا أرضك يا بلدنا

• ولا مرة

• على بابي واقف قمرين

"موعدنا أرضك يا بلدنا" و"بلادي ومين ما بيعرف جمالها" و"يا صمتي يا معذبني" و"رح تبقى الوطن" الذي أداها مع نجوى كرم. كما خص الرئيس اميل لحود بمناسبة توليه الرئاسة أغنية بعنوان "من فرح الناس جايي" تبعها بأغنية ثانية كان من المقرر أن يؤديها مع كرم وهي بعنوان "بالسنة أشوفك يوم".