تمرّ علينا لحظات في هذا البلد نشعر فيها لبرهة من الوقت بأننا نعيش داخل خيمٍ صحراويةٍ، أو أننا نقف أمام مقصلة الـ"غيوتين" في القرون الوسطى، و لحظات نشعر فيها بأن الحاكم التركي أو الباب العالي سيصدر حكماً بلمّ القمح من بيوتنا ، ولحظات نشعر فيها بأننا سنتجمّع في ساحة المدينة لنستمتع بمشاهدة حرق كتب إبن رشد، أو جلد مواطنة لأنها لم تغطّ رأسها عند خروجها من المنزل.
نعم هكذا نشعر في بعض الأحيان في لبنان، نعم هكذا نشعر ونحن على أبواب عام 2017 ، ونحن نحمل الكون كله بمعلوماته، ماضيه، مستقبله، جغرافيته وثقافته في أيدينا وعلى هاتفنا الذكي.
بغياب الصناعة، وموت الزراعة، وبديكتاتورية القطاع المصرفي الخانقة، لم يبقَ لنا سوى السياحة نافذة نستنشق منها الهواء ربما نثابر على الحياة في هذا الوطن. فقد شهدنا خلال موسم الصيف هذا صناعة لمهرجانات إستهلاكها داخلي ومردودها خيّرٌ للإقتصاد، وللثقافة وللنفسية المتعبة من قهر ظلم حكام هذا البلد.
لكن لا بُد لنا أن نعيش لحظات الجاهليّة في بعض الأحيان ونشعر بتخلّف العقول وإهتراء بعض الأرواح. فبعد إعلان اللجنة المُنظّمة لمهرجانات صيدا عن التحضير لحفلتين واحدة للفنانة نانسي عجرم وأخرى للموسيقي غي مانوكيان ، سمعنا من بعدها موجة من الإنتفاضات الأفغانية، الصادرة من أفواهٍ تشبه تلك المنتمية لحركة طالبان، أو الآتية من قبور المماليك. "صيدا لن ترقص" هاشتاغ إستخدمه المعترضون على المهرجانات في صيدا، ليطالبوا بوقف المهرجان لأن الرقص عيب والغناء حرام، وهذه الإحتفالات لا تُشبه العادات والتقاليد.
كذلك الأمر في طرابلس، فما إن أعلنت رئيسة جمعيّة طرابلس حياة السيدة سليمة الريفي عن إطلاق مهرجانات طرابلس التي سيغني فيها كل من عاصي الحلاني، راغب علامة وكاظم الساهر. سمعنا أصواتاً من بعدها عبر وسائل التواصل الإجتماعي، أصواتاً على نفس أنغام التخلّف والتي صعدت في صيدا. طرابلس لا تُغنّي، عبارة ترددت عبر تويتر وفايسبوك، تنتقد المهرجان بمعناه وفحوى رسالته الثقافية الداعمة لحرية الفكر والإبداع.
الغناء والرقص ليسا مجرد رفاهية أو شكل من أشكال الترفيه، الرقص حقٌّ وواجب، الغناء ضرورة وحاجة جسديّة وروحيّة. المهرجانات والإحتفالات خلاصٌ إقتصادي وإجتماعي.
لهذه الأصوات الشاذة الخارجة عن المألوف والتاريخ والحاضر وحتى الماضي ، لهذه الأصوات الصادرة كالشوّك في عنق الوردة، لهذه الأصوات المخدّرة بعقاقير المخابرات الخارجيّة، لها جميعها نقول :
نعم طرابلس ستغني، وصيدا سوف ترقص. لأنهما تستحقان الحياة بعد عقودٍ من الموت السريري الناتج عن إهمالٍ وتخلٍّ، بلى طرابلس ستغنّي لأن أهلها ينتمون إلى ثقافةٍ طبعت تاريخها الفخور وماضيها المتقدّم بالفكر والحقيقة، بلى طرابلس ستغنّي لأنها مدينةٌ تعيش العيش المشترك ولا تدّعيه ، مدينةٌ تنام على أمل وتصحو على خيبة في السياسة والإنماء، طرابلس ستغني لكي تُسمع صوتها على أعلى قمّة حرية.
وبلى، صيدا سترقص، سترقص لتعوّض عن رقصات النعوش المحمولة على أكتافٍ متعبة، صيدا سترقص لأنها سئمت من الجلوس والإنتظار، سترقص لأن جسدها الإجتماعي طوّاقٌ لحرية التعبيير وعيش الذات الحقيقيّة.
إن الرقص والغناء، لا ينتميان إلى عصرٍ وحداثة، بل ينتميان إلى كل عصرٍ إنسانيٍّ وواقعٍ حالي، فالرقص رياضة روحيّة تعلو من خلاله الروح إلى مرتبة الخلاص وفكّ حصار الإجتماعيات والتزلّف، والغناء وحده يُخرج مكنون الوعي واللاوعي ويُغني عن إدمان وسوء عادة.
لن نعيش عصر المقصلة، لن نقبل بعهد الجلد وحرق الكتب، لن نرضى بحياة خيم الصحراء، فهنا لبنان حريّة محفورة في ضخورٍ وكرامة محروسة في قنوبين، هنا لبنان بأوفٍ ومواّل، هنا لبنان الحياة المدفوع ثمنها بفاتورة النضال، هنا لبنان عام 2016 وبعد أربعة الاف سنة حضارة، وهنا طرابلس ستغني وصيدا سترقص.