لقد قُدّر لهذه الرقعة من الأرض "لبنان" أن تعيش حالة ضياعٍ في الهويّة الثقافيّة، في كل المجالات وخصوصاً الفنّية منها.
فلطالما كنا من المواكبين لسرعة التغيير في الذوق الموسيقي، نحن أحفاد اللبنانيين المتفرنسيين على أغاني المطربين الفرنسيين في ستينيات، سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ونحن أنفسنا أبناء من عاشوا على أغاني العولمة الأميركية في الفترة التي لحقت تلك الفترات الفرنسيّة. نحن أنفسنا أحفاد من صفّق للكبيرة فيروز من أمام أدراج بعلبك، ومن وقف منتظراً في الصفّ دوره ليجلس أمام "الصبوحة" في "ستاركو"، نحن أنفسنا أولاد فرقعات الحرب على أنغام زياد الرحباني، وحنين سِلم نصري شمس الدين.
كنا قد ظننا أن الجيل الجديد هو جيل ملاهي الليل المكتفي بزجاجة مشروب روحي، "أورغ" إلكتروني وصوت عادي، يردد كلمات "شو ما كان" والمهم هو الرقص على أنغامها. إلى أن حضرنا جورج نعمة في أحد منتجعات البترون. شابٌ بثياب العصرنة الأميركية وبروحِ الشروال والطربوش. يتحمّل الكثيرون من عشاق الأغاني العريقة صعاب المسافات الطويلة من الزوايا اللبنانية كافة للتوجه إلى البترون لكي يسهروا على أغانٍ لا تموت، بل تحيا في وجدانٍ وذاكرة.
الملهى البحري ممتلئ، حتى ضاق بهم الشاطئ ، إعتلى جورج نعمة المسرح، وبدأ بحماسة بعيدة عن المواويل التحضيرية في النوادي الليلة المعتادة. من أبرز ما يمكن ملاحظته هو الغياب التام لنفاق البذخ والبطر اللبناني، في تفتيح الشمبانيات والتوقف المستمر للفنان لإلقاء التحيات. فهنا العقلية غربية في التواضع وروح السهر المنظّمة لكن على أغاني فيروز، نصري شمس الدين، صباح، زياد الرحباني، وردة الجزائرية وكل كبار الماضي الجميل.
الأعمار صغيرة، نعم صغيرة، إنهم من الجيل الجديد يعرفون كل الأغاني عن ظهر قلب، وكأنهم جُمّدوا من عصور الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وعادوا اليوم بجسدٍ شاب وذوقٍ عتيق. نعم، لقد نجح الفنان جورج نعمة في تغيير مفهوم السهر عند الشباب اللبناني، من مبدأ ظلمة المكان، صخب الموسيقى المسببة لأرق الليل وأوجاع الرأس، إلى أغانٍ خرجت من أوراق فخورة لكاتب مبدع، ألحان ذابت الأوتار على عشقها، وأصوات كأرز لبنان.
أما جورج نعمة، فهو فنان صوت وصورة، ولا يُقصدُ بالصورة رتابة الفنان الشاب بعضلاته المفتولة وقميصه المفتوح بهدف "البزنس"، وإنما صورة مبهرة بحركات الجسد وتعابير الوجه المرافقة لألحان وكلمات الأغاني التي يؤديها.
عند حضور جورج نعمة، تشعر وكأنك تسهر في السان جورج ببنطالٍ واسعٍ وسوالف عريضة، تحتفل بعز السبعينيات وبحبوحة الوطن الحلم. جورج نعمة، شابٌ لبنانيٌ كسر حجة العصرنة في سطحية الأغاني، وأثبت أن "الجينز" لن يُنسينا عزّ الطربوش. جورج نعمة، فنان يليقُ به الماضي.