لم يكن "أيان فلمينغ" الروائي البريطاني يتوقّع أن يُكتب مع كتاباته الروائية "العميل جايمس بوند" فنّ مرافقة مخيلات أجيالٍ متلاحقة. لم يكن ينتظر أن تصبح كلماته مشاهد "لا واقع" تنسينا مرارة واقع. لكنه أدرك جيداً أن للسيارة التي تطلق النار وتتحول لقاربٍ أو لطيارة أو ما شابه، هي سيارة تدخل في حلم كل واحدٍ منا في هذا الزمن غير الواقعي بدوره. عرف جيداً أن التشويق حاجة لكسر روتين، لتنشيط ذاكرةٍ خمولة، ولمعالجة آلام الملل المستعصي. و بعد أن أنهى إثني عشر نسخة من كتاب "جيمس بوند" ، سلّم جسده وروحه للخالق عام 1964 و سلّم قلمه لكتّابٍ حافظوا على خلود البطل "بوند" عميل الإستخبارات البريطانيّة ، الذي يجذب النساء ويتمترس بمركز مثال أعلى لكل رجل يطفو على سطحية الذكورية.

إنه "جيمس بوند" ذاك الرجل الأنيق منذ لحظة إستيقاظه صباحاً، خلال المعارك، وحتى ليل ممارسة الحب على مستوى طموح كل سيدةٍ طموحة. حققت أفلام "جيمس بوند" مستوى أطول سلسلة أفلام في تاريخ السينما العالمية ، ولعل أبرز من مرّ على صفحات تاريخها ، الوسيم السابق والحكيم الحالي "شون كونوري" عام 1962 ، و حالياً مع "دانيال كريغ" البريطاني الخمسيني، الذي يكبر في أعين المعجبات وليس في السن، أنهى رابع فصلٍ من شخصية "بوند" بفيلم "سبيكتر" الذي تمّ إفتتاح أول عرضٍ له في لبنان في صالات "سينما سيتي" في الوسط التجاري، وبدعوى من المجلس البريطاني، و هو الجناح الثقافي التابع للسفارة البريطانية في لبنان.

في حفلٍ مميز و أنيق يليق بالمحتفى به، تمّ عرض الفيلم لأول مرة أمام نخبة من أهل الفن والإعلام و السياسة و المجتمع.

فيلمٌ ينسيك الساعتين والنصف ضمن محدودية المقاعد ولا حدود الخيال. بين بريطانيا، إيطاليا، المغرب،المكسيك، ألمانيا والكثير من بلاد العالم، تنتقل المشاهد للبطل بوند الذي يسعى لإيقاف أكبر شبكة إستخباراتية في العالم قبل أن تستحصل على موافقة للولوج إلى قاعدة بيانات الدول الكبرى. وطبعاً لا بد لتاء تأنيثٍ لدعم مخيلة التشويق.

ومن أجمل من حفيدة كاترين دونوف، بريجيت باردو، جان مورو، و سيمون سنوري... من أجمل من "ليا سايدو"، التي تتشح بشرتها ببياض جبال الألب، و تتزين عيونها بأزرق شطوط مارسيليا، و تبهر المتأمل بمشيتها القوية المستوحاة من بلاد "الغال".

ولتحفة الإبداع الإخراجي، كان لا بد من خبيرٍ في لقطات التشويق الخيالي، المخرج "سام مينديس" صاحب السجل الحافل بالإنجازات السينمائية الضخمة مثل "روود تو بيرديشين" ، "كاباريه" و "جيمس بوند سكاي فال" عام 2012.

والجديد في فيلم جيمس بوند الأخير، إعتماده الكبير على أسلوب الغموض الأكوستيكي. في طرح المشاهد الغريبة التي لا تستوعبها سطحية التفكير. هذا النوع الذي كان "كوانتين تارنتينو" أول من إستخدمه في أفلامه فشكّل حينها صدمةً للرأي العام العالمي و تصدّر لائحة أفضل مخرجي العالم، كما إستخدم المخرج "سام مينديس" تقنية فصل الصورة و هي تقنية كان "كوانتين" أيضاً من أول الخلاّقين لها.

الغريب في الفيلم، أن موسيقى سلسلة "جيمس بوند" لم تُستخدم سوى مرتين ، في مقدمة الفيلم وفي آخر مشهدٍ عندما نرى السيارة التي يقودها وبقربه الشقراء الفرنسية ويذهبان بها إلى شهر عسل الخيال و المخيلة. وهذا أيضاً يُعتبر من الأساليب الجديدة في تقديم مادة "جيمس بوند" للمشاهدين.

طبعاً، لا يمكن للفيلم أن يمرّ من دون جرعة جمالٍ إضافية، فـ"مونيكا بيلوتشي" ، التي لعبت دور الأرملة، مرّت في الفيلم مروراً أيضاً بلباس الأسود. هي أرملة أهم عناصر الإستخبارات الذي قُتل ومن قواعد المافيات العالمية أن تلحق به زوجته إلى قبر الأسرار، بما أنها تعرف كثيراً. و من غير جيمس بوند ليحمي تلك الجميلة؟، لغاية في نفس "جيمس".

كلفة الفيلم تخطت المئة مليون دولار، ومن الأرقام الصادمة التي تداولتها الصحافة العالمية، هي أن تكلفة تحطيم السيارات للأفلام العشر الاخيرة بلغت حوالى 34 مليون دولار ، خصوصاً السيارات العشر لـ"أوستن مارتن". كما أن الضرائب على الفيلم الأخير قدرت بمبلغ عشرين مليون دولار. وهي أرقام تتخطى موازنات وزارات في لبنان .

لن نتحدث أكثر عن تفاصيل الفيلم، فمخيلات المشاهدين طوّاقة للإستمتاع بجديد السلسلة العالمية. و يجدر الذكر، بأن تنظيم الإحتفال في وسط بيروت كان محترفاً جداً، على عكس التنظيمات التي تقام للأفلام اللبنانية حيث يختلط حابل الصحافة بنابل المدعوين، و تعمّ فوضى تدفيش الأكتاف المتناحرة على المقاعد الأفضل في الصالة، ويدور هرجُ التزاحم و مرج المحسوبيات. على أمل أن نتعلّم من الأجانب غير الموسيقى وثقافة نوادي الليل، نتعلّم منهم ثقافة التنظيم و الشبع من جوع شهرات بالية.

جيمس بوند، بطل قصصٍ روائية، تحوّل إلى نجم أفلام تشويقٍ خياليٍة، إستهلك في الكثير من الإعلانات و برامج التلفزيون و الراديو. هو رجلٌ، في زمن اللارجال.

لمشاهدة ألبوم الصور كاملاً إضغط هنا