منذ عهد أم كلثوم التي كانت من أهمّ الداعمين للرئيس عبد الناصر، أصبح الإنتماء السياسي للفنان خاضعاً لقانون الطوارئ والمحرمات.
ولطالما كان الفنانون العرب عموماً واللبنانيون خصوصاً يطبّقون سياسة النأي عن النَفِسْ بمهنيّة مطلقة ، فينتمون إلى أحزابٍ وأفكارٍ وعقائد من تحت الطاولة، أما من فوقها، فهم حياديون لا لون لهم و لا رائحة حزبيّة. فقُسّم الرأي العام اللبناني إلى فئات: سياسية- فنّي- رياضيّة ... وكأن كل فئة تنتمي إلى كوكبٍ ضمن مجرّةٍ وهمية، فتناسى الناس أنّ المغني أو الممثل أو الرياضي، هو مواطن عادي، ينتمي إلى مناطق محددة، ديمغرافية معيّنة، طائفة، حزب، وحتى وطن . فمشى الفنانون اللبنانيون قرب الحائط "ويا رب السترة"، ولا يريدون غير السترة تحمي جيوبهم من حسد السياسة، ولا تؤرق على أملاكهم ليالي نومهم العميق ، فيستمتعون برفاهية الأموال ويشبعون منها حتى التُخمة، فهم مع الجميع، وللجميع، هم ملائكة في الرأي والتعبير.
فتعوّدنا أن نقرأ ونشاهد في المقابلات الصحافيّة، طهارة الأجوبة على كل الأسئلة المتعلّقة بالإنتماء أو حتى الرأي السياسي، فتكون الأجوبة شبيهة بتلك الصادرة عن المتباريات في المسابقات الجمالية: أنا مع لبنان كل لبنان- أن لست مع أيّ سياسي- أنا مع الشعب المسكين...فذرفنا دمعاً كثيراً من جراء المشاعر الوطنيّة الكبرى التي تنتمي إلى الأرزة وجبران خليل جبران، هذا الأسم المُستثمرُ في كل قصيدةٍ وطنيةٍ يتلوها فنان في تصريحه، من دون أن يلمس غلاف كتابه حتى. فقرفنا من رماديّة آرائهم، ومن نفاق تصريحاتهم الوطنيّة "اليوضاسيّة"، وسئمنا حياديتهم الكاذبة، وكأنهم من المُشتري وإليه يعودون.
وأصبح إنتماء الفنان اللبناني الوطني، كمسبحةِ صلاةٍ يرددها الرأي العام في كل مناسبةٍ و ذكرى، لأن السياسة تقطع رزقهم، وتقلق حساباتهم المصرفية، وتُفرغ مقاعد المهرجانات، و تقصيهم من غلافات المجلات ومانشيتات الصحف.
لكن اليوم، ومع تفتّح براعم الربيع العربي، تغيّر واقع الحال ونبتت الجرأة في نفوس الفنانين اللبنانيين، ليخرجوا عن صمتهم المضني ويعبروا عن شعورهم وإنتمائهم . وما شهدناه في الآونة الأخيرة من ظهور علني للفنانين مع الجماهير المُحتشدة في الساحات ما هو سوى دليل حيّ على ذلك، مع بعض الإستثناءات في الأسماء، التي كانت رائدةً في الجرأة و العلنيّة، كالفنانة إليسا مثلاً التي أعلنت عام 2006 في مقابلةٍ لها مع الإعلامي نيشان تأييدها لنهج الدكتور سمير جعجع.
كما الفنان زين العمر (طوني حدشيتي) الذي يرتدي اللون البرتقالي قبل كل الألوان ويؤيد الجنرال ميشال عون، ومعه من مؤيدي التيار نفسه الفنانون سمير صفير وميشال الفتردياس وغسان الرحباني والراحل زكي ناصيف ، يُضاف إلى لائحة الأسماء الفنانة جوليا بطرس التي لا تنتمي فقط إلى نهج المقاومة إنما تدعمه بالصوت واللحن أيضاً ، الفنان معين شريف يؤيد حزب الله ، الفنانة ماجدة الرومي أعلنت ولاءها للدولة التي يرعاها الشيخ سعد الحريري . أما الفنان ملحم بركات، فيذهب بتأييده إلى المعادلة الإقليميّة ليعلن تأييده للدكتور بشار الأسد في كل فرصةٍ إعلاميّة، والممثلة نادين الراسي تُعدّ من المقربين من تيار المردة عائلياً وسياسياً.
عبدو ياغي وباسكال صقر أيّدا تيارات عديدة من خلال غنائهما ، وكذلك فعل الفنان الياس الرحباني من خلال الأغنيات التي كتبها ولحّنها الفنان فارس كرم غنى للوزير سليمان بك فرنجية، وفضل شاكر إختار الراديكالية الدينية في إنتمائه السياسي، أما السوبر ستار راغب علامة فرثى الشهيد رفيق الحريري بريمكس خاص للنشيد الوطني اللبناني....هذا بالإضافة إلى لائحة طويلة من فنانين باتوا يتمتعون بصراحة التعبير عن إنتمائهم، بعيداً عن المجاملات الإعلامية-الإعلانية، ومن بعدهم، خرج الكثيرون عن صمتهم الجبان، ليشاركوا الناس إعتصاماتهم وتحركاتهم المطلبيّة ، مع التذكير بأن بعضهم، يتلوّن مع الزمن ويتغير بحسب متطلبات العصر وضروراته ، ويشبهون بذلك بعض السياسيين المتحوّلين بحسب الفصول الإقليميّة والدوليّة.
لكن مهما كان رأي الفنان وإلى أيّ جهةٍ إنتمى، فهذا يصب في خانة الحريّة الشخصيّة في التعبير والإنتماء، حتى ولو كلّفه ذلك هبوطاً في أسهم الجمهور، فالفنان مثل أيّ مواطنٍ عادي، تاجرٍ أو صاحب مصلحة على سبيل المثال، يُحسب على جهةٍ معيّنة أو طائفة للأسف فيخسر هو أيضاً من نسب الزبائن. ومهما كانت كلفة التعبير عن الرأي لدى الفنان باهظة، تبقى أفضل بكثير من إفلاس الكرامة ، الناتج عن نفاق الوطنية ويافطات الحب الكليّ الرمادي. لأن صراحة الفنان هي ما ينضح به إناؤه، مع الإحتفاظ بحقه بتغيير رأيه ومواقفه مع تغيير الجهات التي يؤيدها، فإثنان لا يغيّران مواقفهما : الميت والغبي.
مهما كثُرت ألوان الأحزاب والجماعات والتحركات، ومهما إحتشدت الجماهير في الساحات ومن على المنابر ، نرتقي دائماً إلى فنانين يتمثلون بالسيدة فيروز، التي غنّت الأوطان والتاريخ، وعلت فوق كل أنظمة العرب الغابرة. غنّت واقفة، فهي بعيدة عن الكراسي، غنّت أمام ملوك وليس لهم، غنّت للسلام حتى خجلت حروبهم من صوتها.
فهي تنتمي،لهذه الأرض...وتلك السماء.
ليس عيباً أن يعلن الفنان ولاءه لسياسة معينة ان كان فعلاً مقتنعاً بها ولكن العيب هو ان يغيّر سياسته كل فترة عن غير قناعة .