ذات ربيع شهدت بلدة انطلياس المكسوّة بأشجار الأرز والنخيل ولادة طفل أطّل مع أول خيط من خيوط فجر الثالث والعشرين من أيار عام 1923. وفي بيت قرميدي عمره من عمر الزمان، ترعرع الطفل النابغة عاصي الرحباني في كنف عائلة رحبانية متواضعة. ضمت بعد عامين جناحه الأيسر منصور الذي لم يكن هو الآخر أقل عبقرية منه.
هو نجل الموسيقي حنّا بن إلياس الرحباني الذي كان يعشق العزف على آلة البزق التي إستعارها من صديقه الموسيقي البيروتي (محيي الدين بعيون) ورغم تحفظه وتشدده كان يعزف عليها في عشيات (الليالي الباردة) في مقهاه الشعبي الذي يقع في منطقة كانت تعرف بـ"الفوار" تقع على كتف بلدة أنطلياس، جامعاً حوله زبائنه والولدين الصغيرين ليستمعوا إلى عزفه, بالإضافة إلى بضعة أغانٍ قديمة على الفونوغراف, خاصة أغاني أم كلثوم, أمين حسنين, عبد الوهاب, سيد درويش, وغيرهم من مطربي تلك الأيام. وبدوره ورث عاصي حبه لآلة البزق عن أبيه فتعلم العزف عليها وهو في أوج شبابه.
كان يمضي عاصي ومنصور ستة أشهر في المدرسة كل سنة، ثم كان يخرجهما والدهما لكي يساعداه في موسم الربيع، قانعاً الأم بأن ما حصلا عليه من علم، كافٍ لتلك السنة.
نشأ الصبيان في هذا الجو، تشدد في بيئة محافظة من جهة، وموسيقى وفن من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة مناخ قروي على إيقاع شلالات بلدة أنطلياس خلال الصيف، وفي الشتاء أمطار وعواصف ورعود، يضاف إلى ذلك عامل مهم جداً لعب دوراً في نشأتهما، وهو جدتهما لأمهما، التي كانت أيضاً محافظة كالأب، لكنها كانت تحفظ الكثير من الحكايا والخرافات، عن الأبطال الخياليين, القبضايات، الجنيات، وأخبار الحب، كما كانت تنظم الزجل والقراديات، على الرغم من كونها أمية. كانت تشجعهما على حفظ ما ملكت أيمانهما من هذا الموروث الشعري.
كل هذه العوامل مجتمعة، ساعدت في نشوء موهبة الصبيين، مع مخيلة جدّ غنية وجدّ مزدهرة، وكان يتضح ذلك عندما كان يحبسهما الأب في "العلية" لكي يبقيا بعيدين عن بقية الصبيان، إذ كان عاصي يخترع حكايات عن الجن وعن ناس لا يكبرون ولا يهرمون، لكي يتسلى أخوه الصغير, والذي كان يصدق كل ما يقوله.
يروي منصور فيقول: كانت علامات الذكاء واضحة عند عاصي منذ البداية، وكانوا يتوقعون أن يصبح شاعراً أو فناناً في المستقبل. أما أنا، فكانوا يقولون أني سأصبح قاطع طريق، في أحسن الأحوال.
في عمر الرابعة عشر، أسس عاصي مجلة اسمها "الحرشاية" حيث كتب بخط يده أولى محاولاته الشعرية، والقصص المسلسلة، باللغة العربية الفصحى أو بالعامية اللبنانية، كان يوقعها بأسماء مستعارة، ويذهب ليقرأها من "بيت لبيت" في نهاية كل أسبوع.
ومرة كان يحاول الأب بولس أن يشرح نظرية "التيتراكورد" لطلابه، فاكتشف أنه لم يتمكن أحد من استيعابها، لكن عاصي الذي كان يقف خارجاً عند الباب قال أنه يستطيع شرحها، فدعاه الأب بولس وقال له: "إذا أعدت شرح النظرية سأعلمك الموسيقى"، وهكذا كان، شرح عاصي النظرية، وبدأت مرحلة تعلم أبجدية الموسيقى.
بعد الحرب العالمية الثانية، قرر عاصي ومنصور أن ينتقلا من الهواية إلى عالم الاحتراف، وكانت الإذاعة الطريق الوحيد للانطلاق في مجال الاحتراف، تعرفا في البداية على "إيليا أبو الروس" وكان عليهما أن يخضعا لامتحان، فقدما في الامتحان بعضاً من أعمالهما الخاصة، إلا أنها لم تلق ترحيباً من قبل اللجنة الفاحصة، باستثناء "ميشيل خياط"، ادعى أعضاء اللجنة أن تلك الأغاني تتضمن كلمات غريبة وغير مألوفة في الأغنية العربية عموماً واللبنانية بشكل خاص, مثل: "ليش" , "هيك" , "جرد" .. وهكذا رفض كورس الإذاعة ومطربوها أن يغنوا للرحبانيين، فأحضرا أختهما "سلوى" وأسمياها "نجوى" لتؤدي أغانيهما في الإذاعة.
كانت الأغاني في الإذاعة تقدم بشكل حي, دون تسجيل مسبق, مع استمرار تقديم أعمالهما, بدأ يؤمن بهما بعض الأشخاص, ومن هؤلاء: "فؤاد قاسم" رئيس مصلحة الإذاعة, الذي تبنى أعمالهما, وطلب من عاصي, الذي كان قد تعلم العزف على الكمان في الكونسيرفاتوار, وتعلم الأصول العلمية للموسيقى على يد الفنان "إدوار جهشان" في أكاديمية الفنون لـ "ألكسي بطرس", أن ينضم إلى الإذاعة بصفة عازف كمان, ومؤلف موسيقي. وافق عاصي واستقال من سلك الشرطة, وكان يأتي كل يوم إلى عمله في الإذاعة على الدرّاجة (البسكليت). وكان من نتائج اقتناع "فؤاد قاسم" بالأسلوب الرحباني, أن أصدر قراراً يمنع فيه بث أية أغنية تتجاوز مدتها الخمس دقائق, مما إدى إلى انحسار تيار الأغنية الطويلة.
ومنذ ذلك الحين, صار المعجبون بأغاني الرحبانيين يزدادون, ومن بين هؤلاء المخرج "صبري الشريف" و"محمد الغصيني" اللذين كانا مديرين في إذاعة الشرق الأدنى في قبرص, صبري الشريف جاء خصيصاً إلى بيروت لمقابلتهما, ثم فيما بعد انتقلت المحطة بأكملها من قبرص إلى بيروت.
ومن بين الأشخاص الذين تعرف إليهم عاصي ومنصور في تلك الفترة, "خليل مكنية" عازف الكمان المعروف, وابن أخته "توفيق الباشا" , "زكي ناصيف" معلم الموسيقى وعازف البيانو, وصاحب الصوت الجميل, "الحاج نقولا المني" , "حليم الرومي" , "فليمون وهبة" و"أحمد عسّة" الذي كان مديراً للإذاعة السورية, والذي فتح لهما بابها على مصراعيه.
بانتقال إذاعة الشرق الأدنى من قبرص إلى بيروت, حصل تغيير كبير في مجال عمل الرحبانيين, وأخذت أغانيهما تصل بسرعة إلى آذان المستمعين. ومن بين تلك الأغاني القديمة كانت: جاجات الحب, زورق الحب لنا, يا ساحر العينين, سمراء مها, هل ترى يولا .. وكانت تؤديها أختهما "سلوى" أو "نجوى" كما أسمياها, وهكذا حتى جاءت فيروز.
عندما التقى عاصي بفيروز للمرة الأولى, كان هو موظفاً في الإذاعة, وكانت هي مغنية في الكورس في نفس الإذاعة. أما منصور فكان لا يزال شرطياً. حليم الرومي هو الذي قدمهما لبعض. في البداية اعتقد عاصي أن صوت فيروز غير مناسب لأداء الأغاني الغربية, لكنه كان مقنعاً بالنسبة لحليم الرومي, منصور من جهته كان رأيه أن هذا الصوت هو الاختيار الخاطئ لأعمالهما, لكنه اعترف لاحقاً أن كان مخطئاً جداً في رأيه.
بدأ عاصي بكتابة الأغاني لفيروز غير, أنّه استلزم مدّة ثلاث سنوات لإقناع المسؤولين في المحطة بمقدراتها. إذ أنّ الأصوات الرائجة في تلك الفترة كانت أصوات نجوى, حنان وأخريات. في النهاية, استقال منصور من سلك البوليس, وانضمّ إلى عاصي وفيروز و"إبتدا المشوار".
هيّأ الرحبانيان لفيروز انطلاقة رحبانية محضة, وخضع صوتها للكثير من التجارب, فقد غنت الألوان الأوروبية الصعبة, ثم الألوان الشرقية الصعبة, مع مختلف الأوركسترات, وكانت دائماً تثبت جدارتها, وتكونت لديها خبرة لم تحصل عليها أية مطربة أخرى.
كان همّ الرحبانيان هو خلق موسيقا لبنانية ذات هوية واضحة. لذلك بدأا من الصفر, عادا إلى الفولكلور, إلى الماضي, وأخذا بعض الأغنيات وأعادا توزيعها دون تغيير بالكلام, في مرحلة لاحقة صارا يخلطان الألحان الفولكلورية بعضها ببعض, مثلاً "أبو الزلف" و "الدلعونا" مع "عالماني الماني" في أغنية واحدة مع كلام مع تأليفهما, مما أوقع البعض في الالتباس, حيث ظنوا أن الكلام هو في الأساس قديم, بينما هو رحباني صرف.
فيما بعد أحسا بضرورة أن يكون للبنان موسيقاه الراقصة الخاصة به, وكانت الموسيقا الدارجة وقتها التانغو والجاز والبوليرو والسلو, وغيرها من الألحان الغربية, فصارا يأخذان مقاطع من هذه الموسيقا ويضعان لها كلاماً لبنانياً وتوزيعاً موسيقياً جديداً, دون ادعاء بأنها لهما, بل كانا يقولان أنها مقتبسة ومعرّبة, إلى جانب ذلك وضعا لوناً لبنانياً راقصاً مثل: "نحنا والقمر جيران" ووضعوا إيقاعات راقصة لأغانٍ فولكلورية مثل: "يا مايلة عالغصون" و"البنت الشلبية".
بالنسبة للشعر, بدأا بكتابة القصيدة القصيرة المختصرة, التي لا تتجاوز مدة غنائها بضعة دقائق, مثل "لملت ذكرى لقاء الأمس" و"سنرجع يوماً", أما بالنسبة للموشحات التي وجدا أنها انقرضت أو كادت, فقد جمعاها وأعادا إحياءها من جديد, وعملا لها توزيعاً موسيقياً جديداً, وزادا على كلماتها, وكان استقبال الناس لها عظيماً, ثم صارا يؤلفان موشحات خاصة بهما.
في عام 1955, بعد أن تزوج عاصي بفيروز, سافروا جميعاً إلى مصر للاطلاع على شؤون الفن هناك, فالتقوا "أحمد سعيد" مدير إذاعة صوت العرب, وعرضوا عليه تقديم عمل للقضية الفلسطينية, اقترح أحمد سعيد أن يسافر الرحبانيان إلى "غزة" ليستمعا إلى الموسيقا والشعر هناك, فاعتذرا لخوفهما من ركوب الطائرة. لكن عندما طلبا الاستماع إلى بعض الأغاني المسجلة, وجدا أنها مفعمة بالبكاء والنواح "يا من يرد لنا أرضنا" .. فعرضا على أحمد سعيد أن يقدما شيئاً بطريقتهما الخاصة, وقدما وقتها غنائية "راجعون".
وفيما بعد وضع الأخوان رحباني مجموعة من الأغنيات عن القضية الفلسطينية مثل: "سنرجع يوماً" و"زهرة المدائن".
في عام 1956, اضطرت إذاعة الشرق الأدنى إلى التوقف عن البث, بعد أن قاطعها الكثير من الموسيقيين, بمن فيهم الأخوين رحباني, استنكاراً لمواقفها السياسية.
عندما بدأت مهرجانات بعلبك في لبنان, كان منظموها يستعينون بفرق أجنبية من مختلف أنحاء العالم, ولكن ابتداءً من العام 1957 ولدت الحاجة إلى تقديم فن لبناني في هذه المهرجانات, فكان الرحابنة أول من استدعي. أوكلت إليهم مهمة التلحين فقط في البداية, لكن عاصي أصر على استلام المهرجان كله. كانت اللجنة المنظمة ضد أن تكون فيروز هي المطربة, لكن عاصي أصر على موقفه, وقال للجنة أنهم لا يعرفون فيروز, وأنها ستغني شيئاً مختلفاً عن المتوقع, كما عرض أن تتقاضى فيروز ليرة لبنانية واحدة فقط, وهكذا كان.
لكن المهرجانات ألغيت في السنة التالية, بسبب الأحداث التي شهدها لبنان في تلك السنة, في العام 1979 عاد المهرجان, وقدم الرحبانيان "المحاكمة" من بطولة فيروز ووديع الصافي.
بشّر العام 1960 بولادة عصر جديد في مسيرة الرحبانيان, حيث بدأا بتقديم المسرحيات في بعلبك ومناطق أخرى, بدءاً من "موسم العز" بالاشتراك مع "صباح" و "وديع الصافي" و "نصري شمس الدين" , ثم "البعلبكية" عام 1961.
وبعد أن قدمت "جسر القمر" في بعلبك ودمشق عام 1962, عرضت "عودة العسكر" على مسرح سينما "كابيتول", بعدها بعام شهد مسرح "كازينو لبنان" مسرحية "الليل والقنديل".
استمرت مهرجانات بعلبك تقطف جمهوراً متزايداً كل سنة مع مسرحيات "جسر القمر" , "دواليب الهوا" , "أيام فخر الدين" , "جبال الصوان" , "ناطورة المفاتيح" ...
في عام 1964, اتصل بهم منظمو مهرجانات الأرز, وطلبوا منهم تقديم برنامجاً شبيهاً لبرامج بعلبك, قدم الرحبانيان وقتها مسرحية "بياع الخواتم" والتي كانت تجربة مختلفة كلياً, كونها مسرحية مغناة من أولها إلى آخرها. حضر عشرة آلاف شخص الليلة الأولى, وأحد عشر ألفاً الليلة الثانية, وكانت تلك ظاهرة فريدة.
عرضت "دواليب الهوا" مع صباح ونصري شمس الدين على مسرح بعلبك عام 1965, بعدها مباشرة قدموا مع فيروز حفلة غنائية في قصر بيت الدين, لقيت نجاحاً كبيراً, ولحق بهم الناس من بعلبك إلى بيت الدين.
في عام 1967, عرض عليهم الأخوة "عيتاني" تقديم عمل على مسرح "البيكاديللي" كل سنة, بدأ الرحبانيان بتحضير برنامجاً لمهرجانات بعلبك أو الأرز في الصيف, وبرنامجاً آخر لدمشق, وواحد ثالث مسرحي, لمسرح البيكاديللي في الشتاء, ابتداءً من "هالة والملك".
كتبا مسلسلين من بطولة "هدى", أحدهما "قسمة ونصيب" والثاني "من يوم ليوم" الذي اشترته محطات تليفزيونية عربية كثيرة, واشتهر كأحد أجمل المسلسلات الغنائية التي جمعت بين التشويق البوليسي والعقدة الغريبة.
بعد ذلك أوقف الرحابنة العمل للتليفزيون, خاصة بعدما أدركا أن محطات التليفزيون لن تدفع بسخاء من أجل أعمالهما, والتي حرصا كثيراً على بقائها في مستوى عالٍ من ناحية المضمون, ومن الناحية التقنية, لئلا يخيب أمل الجمهور الذي يأتي ليرى ما يتوقعه منهما.
خطوتهما التالية نحو السينما كانت عندما جاء بالفكرة صديقهما "رجا الشوربجي" الذي أقنعهما بتحويل إحدى المسرحيات إلى فيلم سينمائي, وبعد استشارة "كامل التلمساني" مستشار مكتبهما, والمخرج المصري "يوسف شاهين" الذي صودف وجوده في لبنان في تلك الفترة, قررا نقل مسرحية "بياع الخواتم" إلى الشاشة الفضية, كما وافق "نادر الأتاسي" على إنتاج الفيلم. وكان عاصي ومنصور وفيروز وصبري الشريف شركاء في الإنتاج مقابل أتعابهما, عندما وضعت الميزانية المبدئية للفيلم, كانت 220 ألف ليرة لبنانية, إلا أنه كلّف في النهاية 600 ألف, مما شكل كارثة مالية لفريق الإنتاج, إلا أنه لاقى نجاحاً عظيماً لدى الجمهور وفي الصحافة, مما شجع للبدء في كتابة سيناريو خاص للسينما.
كان الفيلم الثاني: "سفر برلك" من إنتاج نفس فريق إنتاج الفيلم الأول, أخرجه "هنري بركات", هذه المرة لم تتخطّ ميزانية الفيلم الرقم المبدئي الموضوع, إلا بنسبة قليلة, وعرض لفترات طويلة في لبنان وبقية الدول العربية, على الرغم من الاحتجاج الذي قدمته الحكومة التركية بحجة أن الفيلم يتكلم بالسوء عن تركيا.
نجاح "سفر برلك" شجع الأخوين رحباني على المغامرة في فيلم ثالث هو "بنت الحارس" الذي كان موفقاً كسابقيه, والذي أظهر الكثير من الجمال, كما نجح تقنياً بسبب الاستعانة بتقنيين أجانب, كما في الأفلام السابقة, وتم تحميض الفيلم في لندن.
مع "بنت الحارس" أتم الرحابنة الدورة التي معها دخلا إلى التراث اللبناني من مختلف أبوابه: المسرح, الإذاعة, التليفزيون, والسينما. وانتشر هذا التراث الموسيقي والحواري بين الناس عبر تلك الوسائل, فراج وبقي في القلوب والنفوس.
مع استمرار النجاحات المتوالية, وصل الرحبانيان إلى قمة فنية, ندر أن وصل إليها فنانون آخرون في قلوب الناس, والذخيرة الفنية التي أسسا لها عبر رحلتهما, أذهلت الجميع بتنوعها وغناها. إلا أن تلك الرحلة بترت بشكل موجع, ففي يوم من أيام أيلول عام 1972 وبعد تقديم مسرحية "ناطورة المفاتيح" في بعلبك, وأثناء العمل على الحلقة الرابعة عشرة من مسلسل "من يوم ليوم". في ذلك اليوم, وفجأة, بدأ عاصي يعاني من آلام مبرحة في رأسه, وفقد القدرة على التركيز, أسعف بسرعة إلى المشفى, وكان التشخيص: نزيف حاد في الدماغ. أعطوه في المشفى فرصة للنجاة. عندما قرأ الناس الخبر في صحف اليوم التالي, هرعوا إلى المشفى خائفين, قلقين على عاصي.
بعد مداولات سريعة بين الأطباء, استدعي جراح أعصاب من فرنسا, وأدخل عاصي غرفة العمليات, ونجحت العملية على الأقل في إيقاف النزف. أنقذت حياة عاصي, لكن وقتاً طويلاً مر حتى تمكن عاصي من إعادة تأهيل نفسه ليعود إلى حياته الطبيعية.
"المحطة"، كانت أول عمل قدم بعد شفاء عاصي, حيث لحن فيها أغنية "ليالي الشمال الحزينة", وكانت أول أغنية لحنها بعد مرضه. استمر بالتلحين بعد ذلك. طلب منصور من زياد أن يعملا سوية على أغنية تقدم كتحية من الثلاثة: (منصور, زياد وفيروز) إلى عاصي. أخبره زياد أن لديه لحناً بدون كلمات, سمع منصور اللحن وأعجب به, وكتب كلمات "سألوني الناس" له. في الليلة الأولى للمسرحية, قوبل عاصي بعاصفة من التصفيق عندما دخل مسرح البيكاديللي, بعد انتهاء المسرحية, جمع عاصي منصور وزياد وفيروز, معلقاً على أغنية "سألوني الناس" صارخاً فيهم بنبرةة الشهم: "انتظرتم حتى أمرض لكي تستجدوا تصفيق الناس باسمي, أيها الانتهازيون؟". لكن محبته لهم, وللأغنية جعله لا يوقفها عن المسرحية.
بعد ذلك, عاد عاصي إلى عمله, واستعاد جميع صلاحياته في المكتب, لكنه كان إنساناً آخر, كان يضحك بدون ضوابط, يأكل ويشتم ويحزن ويغضب ويتكارم ويدفع ويسخو بدون ضوابط. لكنه استمر بالتلحين, وكان غالباً ما يستدعي منصور ليقوم بكتابة النوط الموسيقية لأنه لم يعد يطيق صبراً على الكتابة.
فيي نهاية السبعينات, بدأت المشاكل في المسيرة الرحبانية, وأفضت في النهاية إلى الانفصال التام بين فيروز وزوجها وأخيه, عام 1979, لتبدأ مسيرتها المستقلة.
استمر الرحابنة, فقدما مسرحيتي "المؤامرة مستمرة" عام 1980, و"الربيع السابع" عام 1984. لكن صحة عاصي بدأت بالتدهور سريعاً, ودخل في حالة غيبوبة, إلى أن جاء يوم الحادي والعشرين من حزيران. ففي صباح ذلك اليوم, سلّم عاصي أنفاسه الأخيرة. وبهذا إنتهت القصة المشتركة للأخوين رحباني, لكن ليس الميراث الذي خلفاه, والذي سوف يعيش طويلاً على مدى الأجيال.
واليوم تبقى صدى أنغام عاصي الرحباني تصدح في عقول وقلوب ووجدان من أحب هذا العملاق الذي سطّر لوطنه الأم ملاحم شعرية وموسيقية وأساطير.