مار مخايل ... هل زرتم سابقاً هذه المنطقة البيروتية التاريخية والأثرية التي تقع بين مرفأ بيروت والأشرفية ؟ انها منطقة تحتوي على "كنوز"، مهددة بالزوال.
أصيبت "مار مخايل" أخيراً بعدوى الملاهي الليلية التي سبق ان تفشّت في منطقة الجميزة المتاخمة لها، فباتت احدى ابرز مناطق السهر والموسيقى في العاصمة بيروت. وعلى الرغم من ان الحركة الليلية أصبحت ناشطة فيها وسرقت الهدوء الذي كان ينعم به سكان هذه المنطقة، إلا انه من المؤكد أن معظم رواد هذه المنطقة يجهلون ما تحويه من "جواهر" ثقافية وتاريخية ودينية مهددة بالزوال بسبب "الهجوم الاسمنتي" عليها وبسبب الصواعق الموسيقية التي تعصف في لياليها.
وكانت مؤسسة "GAIA-Heritage" قد اطلقت تحت رعاية وزير الثقافة ريمون عريجي حدثاً زاخراً بالأنشطة الثقافية والإبداعية في مار مخايل، كجزء من مشروع "MEDNETA" المموّل من جانب الاتحاد الأوروبي ، لتجديد الأحياء ودعم الإبداع وتعزيزه. نعم انها محاولة للتوفيق بين الاهالي الخائفين على "الشارع ذو طابع تاريخي" وبين عرابي التطوير العقاري والحياة الليلية.
كان لموقع "الفن" جولة في "مار مخايل" نظّمتها مؤسسة "GAIA-Heritage" تعرّفنا من خلالها على أبرز المعالم التاريخية في هذه المنطقة والتي، "حتى نحن سكان المدينة" كنا نجهل قسماً كبيراً منها.
الانطلاقة كانت من مكتب "في مار مخايل – In Mar Mikhael" حيث يستقبل المكتب حالياً معرضاً لطلاب الهندسة في بعض الجامعات اللبنانية، الذين تولوا تصميم هيكيلية هندسية جديدة للمنطقة تحافظ على تراثها وعاداتها من جهة وتستوعب التطور من جهة أخرى. وقد شرح لنا أحد الطلاب ان المشروع يهدف أيضاً إلى احياء كل المنطقة (جميزة ومار ميخايل والمدوّر).
من المكتب، انتقل الوفد الاعلامي إلى معمل "البيرة" الموجود في المنطقة. انه مبنى ضخم جداً لكن مهجور. "Grande Brasserie du Levant" وهو أول معمل للجعة في لبنان والمنطقة أسسه جورج واميل جلاّد عام 1932 بعد عودتهما من فرنسا. كان هذا المعمل مصدر رزق لسكان المنطقة، تم اقفاله عام 1995 لأسباب مادية ، ثم اشتراه أحد المستثمرين لكنه عاد وأوقف عن العمل عام 2003 بعدما انحصرت المنافسة في السوق اللبنانية.
مقابل معمل "البيرة" مكتب للماسونية، على شرفته يافطة بعنوان "المحفل الأكبر للنجوم الثلاث"، ولكن اهالي المنطقة يرفضون الحديث عنه.
المحطة الثانية كانت "شارع 52 في منطقة الجعيتاوي 78". هي ساحة صغيرة كان أهالي المنطقة يحتفلون فيها سنوياً بعيد "السيدة".
من ساحة "عيد السيدة" تقدمنا سيراً على الاقدام ، ومن خلال الأدراج والطرق الداخلية الضيقة، إلى "درج جعارة" أو ما يعرف بدرج "الفاندوم" نسبة إلى سينما الفاندوم التي كانت موجودة هناك. هذا الدرج فقد جزءاً من رونقه مع اقتلاع السينما منه وقيام ورشة بناء كبيرة مكانها. أما البيوت الأخرى فما تزال صامدة تحاول مواجهة "وحوش الباطون" . هذا الدرج أخيراً تم انعاشه من خلال "collective kahraba " الذين ينظمون سنوياً مهرجان "نحن والقمر جيران" .
من درج "جعارة" اكملنا طريقنا إلى "محطة القطار" التي تم بناؤها في القرن التاسع عشر، على الرغم من ان هذه المحطة تعتبر مركزاً تاريخياً مهماً ، إلا أن "الدولة" تمنع دخول المواطنين إلى تلك المنطقة التي أصبحت محاصرة بـ "باصات" النقل العام. محطة القطار التاريخية حجبت عن المواطنين لسنوات ولكنها، ولأسباب خاصة بالطبقة السياسية الحاكمة، أصبحت مفتوحةً أمام رواد السهر بعدما تم تحويلها إلى مطعم و"Night Club". وطبعاً لم يسمح لنا بالدخول ! وهنا لا بد من الاشارة إلى ان احد المباني استفزنا لما يشكله من محاولة التفاف على ذكاء المواطنين، فقد رأينا أحد المباني الذي تركت واجهته التراثية كما هي ويتم تشييد مبنى جديد داخل هذه الواجهة التي ، ومن المؤكد أنها ستسقط يوماً ما كما تسقط كل القيم التاريخية في هذه البلد.
من محطة القطار، انتقلنا إلى كنيسة "مار مخايل" التي أعطت اسمها للمنطقة. بنيت الكنيسة للمرة الأولى عام 1831 على أيام ابراهيم باشا في منطقة الكارنتينا، ثم نقلت عام 1855 إلى حيث هي اليوم ، ثم تم ترميمها عام 1883، إلى أن تم توسيعها وتكبيرها عام 1972 لتحصل على شكلها الحالي تقريباً، وما يميّز هذه الكنيسة ، المقابر الموجودة في جوارها، وهذا يدل على قدم الكنيسة بحيث كانت تشيّد المدافن في القديم بجانب الكنيسة وهذا ما لم نعد نشاهده كثيراً في الكنائس الحديثة.
بجوار الكنيسة أيضاً "مسرح مارون نقاش"، صرح ثقافي فني يعود إلى عام 1855. قدّم مارون نقاش في منزله عام 1848 للمرة الأولى مسرحية "L' Avare" لموليير، ثم بنى جنب المنزل مسرحاً قدّم فيه عروض مسرحية كثيرة، وعام 1855 انتقل المسرح إلى جانب كنيسة مار مخايل بعدما أوصى نقاش بتحويل المسرح القديم إلى كنيسة ليدفن فيها.
من المعالم الدينية الموجودة أيضاً في هذه المنطقة "مغارة سيدة البزاز العجائبية". مغارة كانت مخبأ لأهالي المنطقة أيام الحرب، ظهرت فيها السيدة العذراء وتم اطلاق هذا الاسم على المغارة لأن العذراء كانت تشفي كل امراة لديها مشاكل وعاجزة عن ارضاع اطفالها.
المحطة الأخيرة كانت "درج مسعد" الذي نال انتباه اللبنانيين أخيراً بعدما تم ادراجه ضمن لائحة الأثار اللبنانية، درج عمره 80 سنة يصطف على جانبيه البيوت القديمة، وقد تم انقاذ هذا الدرج من الزوال، بتصنيفه أثاراً، بعدما حاول أحد المستثمرين تدميره من اجل انشاء طريق للشاحنات التي تعمل في ورشة بناء على أحد اطرافه.
هذه أبرز المحطات التي تخللتها هذه الجولة في "مار مخايل"، ولكن لا يمكن ان ننسى الابنية القديمة التي رأيناها على الطريق أثناء سيرنا والتي يتحول بعضها إلى مطاعم أو إلى شقق سكنية حديثة تؤجّر فيها الغرف أو حتى الأسرة.
جولة "مار مخايل" عرّفتنا على معالم أثرية وتاريخية كنا نجهلها لأن أضواء الملاهي حجبت عنا رؤية ما تحتضنه هذه المنطقة. ليس مستحيلاً ان يجد اهالي المنطقة وأصحاب الملاهي نقاطاً مشتركة بينهما يمكنهما معا من خلالها تطوير المنطقة من دون تشويهها، ولكن يبقى الأهم ان يستمر الاهالي بمواجهة "المارد الأخضر" أي الدولار، وعدم الرضوخ للأرقام الكبيرة التي مهما كبرت وزادت أصفارها لن تكون اثمن من هذا الارث الثقافي الذي هو من حق الاجيال المقبل . وبالتالي بات من الملح في هذه الأيام ان تحوّل كل الاماكن التاريخية في مار مخايل وكل المناطق اللبنانية إلى أماكن أثرية تحظى بحماية ورزارة الثقافة من المحاولات المتكررة للانقضاض عليها.
لمشاهدة ألبوم الصور كاملاً إضغط هنا .