أن تكون لبنانياً هذا يعني أنك يجب أن تتحمل الكثير من الضغوطات، من ازمات لا تبدأ بخصام سياسي ولا تنتهي بتوابيت متنقلة ودماء تتساقط.. عليك ان تقضي يومك بالبحث عن أحلامك، طموحاتك، اهدافك، وحل لمشكلاتك، لمشكلات متنوعة، سياسية، طائفية، اجتماعية وإقتصادية.
ولكنك اذا أردت أن تكون لبنانياً فعليك في وسط كل هذا ان تتخطى كل تلك المشكلات، ان تترك كل رواسب يومياتك الشائبة جانباً، ان تتخلى قليلاً عن كل ما يزعجك، وتنتقل بأجزاء من الثانية الى الفرح والأمل الى رسالة لبنان الثقافة، الفن والإبداع.
على ضفة أخرى من الاصطفافات السياسية، والمعارك العسكرية، اتجه اللبنانيون بالأمس الى جبيل مدينة الحرف، ليعودوا الى لبنان الحقيقي، تخلوا عن كل شيء يزعجهم، تغلبوا على قصص الموت لمصلحة الحياة، قصص البغض لمصلحة الحب.
هو عازف لبناني أرمني الأصل، عبارة عن خليط عربي شرقي غربي، شيء من كل شيء، هو غي مانوكيان الجواب الواضح لما يميز اللبناني في محيطه العربي والإقليمي، اللبناني الذي يسرق من زحمة يومياته جزءاً بسيطاً ليستمع لأصالة الطرب العربي، وعندما ينتهي يتابع سريعاً حياته فإذا سمع نغمة غربية تراه يتراقص على انغامها، يتآلف معها سريعاً.
غي مانوكيان هو ذاك الربط الجميل بين النغمة العربية والغربية، هو الخلطة المتناسقة المتجانسة التي تروق للبناني، هو لاعب البيانو المبدع الذي يبدأ مقطوعته بأغنية للسيدة فيروز وينتهي بالـSALSA.
على مسرح مهرجانات جبيل قدم مانوكيان بالأمس كل شيء وأكثر، صدح المسرح بعد 5 سنوات من غيابه عن لبنان بموسيقى متجذرة داخل كل لبناني "لبيروت، حلوة يا بلدي، طلعت يا محلى نورها.."، ربطها مانوكيان بموسيقى عالمية ايقاعية صاخبة "هارم، يرفان، سينغبور" فانسكبت على شكل ثورة فنية على الجمهور، الذي غنى ورقص وتأثر وانفعل ووصل الى مرحلة الفرحة التي لا تستطيع عند الوصول اليها ان تتحكم بردات فعلك فتارة يسيطر عليك شعور من الرومانسية على وقع "الناي، والعود، والكمان والبيانو"، وبأجزاء من الثانية تققز وترقص على وقع الطبل، والمزمار والبيانو أيضاً الذي طوعه مانوكيان وجعله مادة دسمة لإسعاد اللبنانيين.
مانوكيان بإبداعاته الفنية وخفة ظله المعهودة سرق أنظار الجميع، واستحوذ على كل حواسهم وعندما وصلنا معه الى مرحلة الإنسجام الكامل أطلق رسالته في فترة الراحة بين المقطوعات، قال ما يجب ان يقال :"لبنان بلد الحريات، بلد التعايش، بلد كل السهر والجمال والثقافة والعلم، بلد افتخر بأنني جزء منه".
توقف مانوكيان قليلاً فاراد شرح كل ما قاله على طريقته الخاصة، عَرَضَ كليباً قصيراً للمدينة التي "يعشقها" مدينة بيروت كما يراها شخصياً، كما نقل صورتها الى نجله جيو، فالكليب الذي قدمه كان رسالة منه الى "جيو" كيف يجب ان يرى لبنان، كما سمع عنه مانوكيان من والده لكنه لم يراه سوى بالصور فهو من جيل الحرب، بيروت التي بدت في الكليب بأبهى حلتها، بكنائسها ومساجدها وملاهيها الليلية وفنادقها، وتميز ابنائها ثقافياً برسالة لبنان.
لمدينة جبيل التي حضرت رسمياً برئيس بلديتها زياد حواط ، والتي قال عنها مانوكيان انها جزء من ذاكرته بمينائها -حيث تعلم السباحة لأول مرة- واسواقها القديمة التي لها وقع خاص عليه، قدم مقطوعة "حلوة يا بلدي" إشراف المايسترو إيلي العليا الذي رافق مانوكيان طوال الحفل.
بعد ساعتين من العزف انهى مانوكيان أمسيته الجميلة بمعزوفة "نسم علينا الهوا" فوقف الجمهور وبدأ يغني على وقع انغامه، وما ان انتهى حتى علا التصفيق وارتفعت الأصوات تحيي هذا الشاب المبدع الذي شكل انعكاساً واضحاً للبنان بتنوع ثقافته، وعمق رسالته التاريخية.
ان تكون لبنانياً عليك أن تعود من فترة الى اخرى بعدما سقطت بفخ طائفيتك، و"تَمَترَستَ" خلف مواقفك السياسية بحدة، الى ثقافة لبنان ورسالته، رسالة لبنان التي وثّقها شارل مالك، ورواها جبران خليل جبران، ونظمها شعراً سعيد عقل، وأنشدتها فيروز أغنيةً، وعزفها بالأمس غي مانوكيان.