في أمسية موسيقية غير مسبوقة احتضنتها كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت، استعاد الحضور عبق الموسيقى الكلاسيكية الروسية ضمن حفل بعنوان "أصداء من روسيا"، أقيم إحياءً للذكرى الـ80 لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. الحدث، الذي يُنظَّم لأول مرة في لبنان، جمع نخبة من العازفين من لبنان وروسيا، وقدّمه المايسترو ألكسندر سلادكوفسكي، أحد أبرز قادة الأوركسترا في العالم، بمشاركة عازف التشيلو العالمي سيرغي سلوفاتشيفسكي، والأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية الوطنية.

جاءت الدعوة إلى هذا الحفل من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى، المؤلفة هبة القواس، وبالتعاون مع السفير الروسي في بيروت، ألكسندر روداكوف، الذي عبّر في كلمته عن امتنانه العميق لتنظيم هذا الحدث، واصفًا إياه بـ"احتفال بالفن والذاكرة المشتركة بين الشعوب".

الموسيقى كلغة خلاص

افتتحت القواس الحفل بكلمة مؤثرة قالت فيها: "في زمن تُغلق فيه الحدود وتضيع فيه اللغات، يبقى باب واحد لا يُغلق: باب الموسيقى. من بيروت، مدينة الموت والحلم، ننطق لا بصوت السياسة، بل بنبض الإنسان."

وأكدت أن هذه الأمسية ليست مجرد عرض فني، بل "رسالة وحدة وسلام تتجاوز الحدود والانتماءات، وتنطق بلغة الفن الخالد".

سلادكوفسكي: سحر القيادة وعبقرية التعبير

من اللحظة التي اعتلى فيها المايسترو ألكسندر سلادكوفسكي منصة القيادة، شعر الجمهور بانسياب طاقة موسيقية هائلة. بقيادته المذهلة، تحوّلت الأوركسترا إلى كيان واحد ينبض بروح تشايكوفسكي. لم يكن سلادكوفسكي مجرد قائد أوركسترا، بل "مؤلفًا زمنيًا"، كما وصفه النقاد، حيث استطاع أن يمزج بين الانضباط الروسي العريق والانسياب الشعوري العميق، ليحوّل الأداء إلى تجربة وجودية كاملة عاشها الجمهور بكل حواسهم.

سلوفاتشيفسكي: التشيلو ينطق بالزمن

أضفى عازف التشيلو سيرغي سلوفاتشيفسكي بعدًا شعريًا على الأمسية. في مقطوعتيه "Pezzo Capriccioso" و"Variations on a Rococo Theme"، قدّم أداءً شديد الحساسية، حيث بدت كل نغمة كأنها تُستخرج من ذاكرة دفينة، وكل صمت أكثر بلاغة من الصوت ذاته. تميّز أداؤه باستخدام دقيق للديناميكية واللون الصوتي، منح الحفل بعدًا داخليًا إنسانيًا عميقًا.

برنامج موسيقي يحتفي بعظمة تشايكوفسكي

تنوع برنامج الأمسية بين روائع تشايكوفسكي، فبدأ بـ"March Slave"، ثم "Waltz of the Flowers" من باليه "كسارة البندق"، ومقطوعات للتشيلو، قبل أن تُختتم الأمسية بعزف ملحمي لتحفة "Overture 1812"، التي جسّدت روح الانتصار والفخر القومي.

الأوركسترا اللبنانية: أداء يضاهي العالمية

أظهرت الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية الوطنية تحت قيادة سلادكوفسكي مستوى فنيًا رفيعًا وانسجامًا استثنائيًا، يؤكد دورها المحوري في إثراء المشهد الثقافي اللبناني. الأداء تميز بالدقة والتفاعل العاطفي، ما جعل الجمهور يعيش تجربة موسيقية لا تقل عن تلك المقدمة في قاعات موسيقى مرموقة عالميًا.

في ختام هذه الليلة، خرج الجمهور من الكنيسة لا فقط مبهورًا بالأداء، بل محمّلاً برسالة أمل: أن الفن لا يزال قادرًا على توحيد القلوب وتجاوز الجراح. كانت أمسية "أصداء من روسيا" احتفالًا بالفن، بالذاكرة، وبالإنسان في أسمى تجلياته.