لا يشبه ما تقدّمه الفنانة اللبنانية جاهدة وهبي أيّ نمط سائد ومفتعل، ولم تتمكّن مغريات هذه الأنماط من استمالتها، فنهجها المصقول بثقافة وفكر ورؤية فنّية أصيلة وحداثيّة في آن، أهّلها لأن تبقى متربّعةً منذ عقود على عرشٍ فنّي نسجتْ هويّته بمهارتها وثقافتها وتنوّعها وخصوصيّتها.


وقد تسلّلت جاهدة وهبي إلى الأماسي النّديّة في"دوما"، تلك القرية الشّمالية المتوّجة بالقرميد والتّراث وبنجوم لا تنام، لتبتكر دروبًا جديدة للعصافير، وفصلًا خامسًا للطبيعة، في مهرجانها الصّيفي هذا العام، الذي كلّله صوتٌ بتنا نفتقده في حمأة فنّ استهلاكي يجتاح الذّائقة الحديثة.
أمسيةٌ مختلفة، قدّمتها وهبي، في عرضٍ استثنائي، يذكّر بلبنان الحلم، ثقافةً وفنًّا وجمالًا ونقاء. فاستحضرت أهم نجمات العصر الذّهبي في ليلةٍ واحدة ساحرة بعنوان: "هنّ في مهبّ النّغم: من بياف إلى أم كلثوم"، رافقتها فيها الفرقة الموسيقيّة بقيادة مارون يمّين، لتعتلي المسرح افتتاحًا بأغنية كُتبت خصّيصًا لدوما من لحنها وكلمات الشّاعرة ماجدة داغر، ثم غنت لفيروز قصيدة "أعطني النّاي وغنّي" لجبران لحن نجيب حنكش، وقدّمت من شعر رابعة العدويّة ارتجاليّة عالية التمكّن والإحساس بصوفيّة الكلام.
وجمعت جاهدة وهبي تلك القامات الفنّية الموسيقيّة في ليلة غنائيّة (فيروز، إديث بياف،أسمهان، داليدا، صباح، وأم كلثوم)
من المشهد الباريسي مع عازف الأكورديون على المقعد تحت قناديل الأرصفة في باريس، على إيقاع أغنيات إديث بياف التي أدّتها وهبه معرّبةً وبالفرنسيّة، إلى قصيدة "قل لي" لسعاد الصباح ولحن وهبه، استكمالاً مع بياف أيضًا مع مشهد السّاحر داني داوود الذي رافقها بأعمال الخفّة الطريفة في أثناء تأديتها، إلى الحضور الرّقيق لشقيقة الفنانة جانا وهبي (التي تولّت تنسيق الحفل ومتابعته) في أداء مشترك لإحدى قصائد أحلام مستغانمي، رحلةٌ نغميّة ممتعة وشائقة.
أما الرّقص فحظي بحصّة وافرة، مع الثنائي كارول حداد وعدنان نعمة على إيقاع أغنية "نجمة الصّبح" كلمات الشّاعر طلال حيدر ولحن وهبي، والرقص الفولكلوري التراثي مع فرقة "زين الليالي التّراثيّة" التي رافقتها في أغنية "خلخال الزّمان" من كلمات الشاعر طلال حيدر وألحانها، تخللها موّال مهدى لدوما من شعر جرمانوس جرمانوس. إلى الرّاقصة إيليانا سطّوف، مفاجأة الأمسية، وهي تتدلّى عن جانب المسرح من رافعة تحملها، لترقص على ما يشبه المنديل الأحمر الطويل يحرّك تموّجات جسدها صوت وهبه.
في الأمسية المتنوّعة كحقل من الأزاهير، أكملت الفنانة هذا التنوّع بالغناء بلغات متعددة، بالإضافة إلى الفرنسية مع بياف، مرنّمةً بالإسبانيّة أغنية Gracias a la vida للمغنية الإسبانية مرسيدس سوسا، أو "شكرًا للحياة" تعريب رشيدة محمدي وآية الضّيقة. ولم تغب الفارسيّة عن هذه الفسيفساء الموسيقية، فغنّت من شعر عمر الخيام قصيدة "ضوء القمر" بتصرّف، بالفارسيّة والعربية.
أعاد الجمهور الفنانة مرّات متتالية إلى مسرح المهرجان مطالبين بالاستمرار في الغناء، ولا سيّما عند أدائها أغنية "إنت عمري" لكوكب الشرق (كلمات أحمد شفيق كامل ولحن محمد عبد الوهاب)، وفي أغنيات أخرى، في ما يشبه عدم الارتواء من أداء وهبه وصوتها، ما يعكس تعطّش الجمهور إلى الفنّ الأصيل الذي تمثّله جاهدة وهبه في كل تجلّياته.